إعادة إعمار غزة بين الهدنة والحصار!

بقلم: يحيى الصادق..
تستمر معاناة سكان قطاع غزة رغم الهدنة التي وُقعت برعاية أمريكية، إذ لم تُنهِ الاتفاقيات القصف الإسرائيلي بشكل كامل، وإن خفّضت وتيرته مؤقتاً. فكل يوم يُسجَّل سقوط عشرات المدنيين بين قتيل وجريح، فيما تتسع رقعة المجاعة التي تضرب معظم التجمعات السكانية.
ولا يبدو أن هذه الهدنة، الهشة بطبيعتها، قد غيّرت من واقع الحصار أو من طبيعة الدمار الذي خلّفته الحرب الأخيرة، إذ ما زالت البنية التحتية مهدمة، والمرافق الخدمية مشلولة، والوحدات السكنية مدمّرة في أحياء كاملة. وفي ظل هذا المشهد، يُطرح سؤال بديهي: هل يمكن فعلاً الحديث عن إعادة إعمار قريبة لقطاع يعيش في قلب العزلة والدمار؟
متطلبات أولية في بيئة سياسية معقدة
تُعدّ إعادة إعمار غزة واحدة من أكثر الملفات الفلسطينية تعقيداً منذ عام 2007، لكنها اليوم تبدو أكثر صعوبة بسبب حجم الدمار، وتآكل البنية الإدارية، وغياب التوافق السياسي الداخلي. فعملية بهذا الحجم لا يمكن أن تبدأ دون تحديد واضح للجهة التي ستتولى إدارة القطاع والإشراف على تمويل وتنفيذ المشاريع.
وتشير مصادر أممية إلى أن غياب هذا التوافق هو العقبة الأولى أمام أي خطة لإعادة الإعمار، إذ لا يمكن للمُمولين الدوليين الالتزام بتعهدات مالية دون وجود سلطة إدارية موحدة وشرعية تحظى باعتراف إقليمي ودولي.
فجوة التمويل والنيات السياسية
تُقدّر الأمم المتحدة والبنك الدولي الكلفة الإجمالية لإعادة إعمار غزة، بما في ذلك البنية التحتية والإسكان والخدمات، بما يتراوح بين 50 و70 مليار دولار. وهو رقم يتجاوز بكثير ما تمّ إنفاقه في إعادة إعمار القطاع بعد حرب 2014، حين لم يتجاوز التمويل الدولي الفعلي ملياري دولار خلال ثلاث سنوات. هذه الفجوة المالية تطرح تساؤلاً حول من سيموّل ومن سيضمن الشفافية في التنفيذ.
من حيث المبدأ، هناك فئتان من الممولين المحتملين:
الفئة الأولى هي الدول العربية والإسلامية، وعلى رأسها السعودية وقطر والإمارات، وهي دول تملك القدرة المالية لكنها تفتقر إلى رؤية موحدة حول مستقبل غزة السياسي والإداري. وبحسب تقارير اقتصادية خليجية، فإن مجمل ما يمكن أن تقدمه هذه الدول في السنة الأولى لن يتجاوز بضعة مئات من ملايين الدولارات، يُصرف جزء كبير منها على المساعدات الإنسانية الطارئة.
أما الفئة الثانية فتضمّ الدول الغربية، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهي عادة ما تربط المساعدات بمسارات سياسية محددة تتعلق بإدارة القطاع وسلوك الفصائل الفلسطينية. وبالنظر إلى تجارب دول أخرى مثل سوريا، السودان، وأوكرانيا، فإن التمويل الغربي غالباً ما يكون أقل من مستوى التصريحات السياسية، ويخضع لاعتبارات تتعلق بالرقابة والمصالح الاقتصادية.
سيناريوهات محتملة لإدارة الإعمار
حتى الآن لا يوجد اتفاق دولي أو فلسطيني واضح بشأن الجهة التي ستتولى إدارة عملية الإعمار، ما يجعل السيناريوهات المحتملة متعددة ومتباينة من حيث الجدوى والتنفيذ.
السيناريو الأول يتمثل في أن تتولى وكالات الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية إدارة عملية الإعمار من خلال إنشاء صندوق تمويلي خاص، يشرف عليه شركاء فلسطينيون ودوليون. هذا النموذج يمنح العملية قدراً من الشفافية والرقابة، ويُبقي الملف ضمن أجندة المؤسسات الأممية بعيداً عن الحسابات السياسية للدول. لكن العقبة الأساسية هنا هي الموقف الإسرائيلي الذي يرفض عملياً أي مسار لا يمر عبر آلياته الأمنية، مما يجعل نجاح هذا السيناريو مرتبطاً بقرار دولي ملزم لإسرائيل برفع الحصار والتعاون مع الجهود الأممية.
السيناريو الثاني يقوم على مبادرة إقليمية تشارك فيها الدول التي لعبت أدوار الوساطة خلال الحرب، مثل مصر وقطر وتركيا، بدعم أمريكي وغربي مشروط. ميزة هذا السيناريو أنه يستند إلى قنوات اتصال مفتوحة مع الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء، ما قد يسهل تذليل بعض العقبات السياسية والأمنية.
معاناة ما بعد الحرب
من الخطأ الاعتقاد أن اتفاق وقف إطلاق النار أنهى معاناة غزة. فالمأساة في مراحل ما بعد الحرب تكون غالباً أعمق وأشد، حين يجد السكان أنفسهم أمام انعدام الأمن الغذائي، وتدهور الخدمات، وفقدان فرص العمل. وتشير بيانات برنامج الأغذية العالمي إلى أن أكثر من 80% من سكان القطاع يعيشون حالياً على المساعدات الغذائية المباشرة، فيما تعاني نسبة مرتفعة من الأطفال سوءَ تغذية حاد.
الإعمار كمعركة سياسية
ليست عملية إعادة الإعمار مجرد مشروع هندسي أو مالي، بل هي معركة سياسية بامتياز. فكل طرف يسعى إلى توظيفها لتعزيز نفوذه أو فرض شروطه على مستقبل غزة. إسرائيل، من جانبها، تفضّل بقاء القطاع في حالة ضعف اقتصادي دائم يضمن لها السيطرة الأمنية ويمنع نشوء كيان فلسطيني متماسك. أما القوى الإقليمية، فتنظر إلى ملف الإعمار كمدخل لتعزيز حضورها السياسي والاقتصادي في شرق المتوسط.
إن الحديث عن إعادة إعمار غزة في المدى المنظور يبدو أقرب إلى الوهم السياسي منه إلى الاحتمال الواقعي. فالعقبات التمويلية، والانقسام الداخلي، واستمرار الحصار الإسرائيلي، تجعل أية وعود بإعمار سريع أقرب إلى الدعاية منها إلى الخطط التنفيذية.



