بين السيادة والضغوط.. قراءة في خلفيات إخراج حماس من الأردن واستضافتها في قطر

بقلم: د. معن علي المقابلة..
أعاد التصريح الأخير لرئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في مقابلة مع شبكة (سي إن إن)، الجدل حول طبيعة علاقة بعض الدول العربية بحركة حماس والظروف التي أحاطت بتواجدها في أكثر من عاصمة عربية خلال العقود الماضية.
فقد أوضح الشيخ محمد أن استضافة قطر لمكتب الحركة لم تكن قرارًا أحاديًا من الدوحة، بل جاءت استجابة لطلب أمريكي-إسرائيلي مشترك، جرى حوله تنسيق مباشر مع الشاباك والموساد ووزارة الدفاع الإسرائيلية. هذا التصريح جاء على خلفية محاولة الكيان الإسرائيلي اغتيال عدد من قادة الحركة في الدوحة، الأمر الذي أعاد تسليط الضوء على الأثمان التي تدفعها الدول الوسيطة نتيجة انخراطها في ملفات معقدة بهذا الحجم.
لكن الأهم أنه يفتح الباب لمراجعة محطات سابقة في مسيرة حماس، وعلى رأسها واقعة إخراجها من الأردن عام 1999.
لطالما جرى تقديم قرار إغلاق مكاتب حماس في الأردن وإبعاد قياداتها عام 1999 باعتباره خيارًا سياديًا خالصًا اتخذته الحكومة الأردنية آنذاك برئاسة عبد الرؤوف الروابدة. وقد ظل الخطاب الرسمي الأردني يصرّ على هذه الرواية، مقدّمًا الأمر في إطار الحفاظ على الأمن الداخلي وتنظيم العلاقة مع السلطة الفلسطينية.
غير أن ما كشفه المسؤول القطري يعيد طرح تساؤلات مشروعة: إذا كانت استضافة قطر لحماس قد تمت بتنسيق مباشر مع واشنطن وتل أبيب، فهل يمكن اعتبار إخراج الحركة من الأردن خطوة مكملة لهذا الترتيب الدولي؟
هل كان القرار في جوهره استجابة لضغوط أمريكية-إسرائيلية أكثر منه قرارًا نابعًا من حسابات أردنية داخلية؟ لا شك أن الأردن، بحكم موقعه الجيوسياسي وعلاقاته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، لم يكن بعيدًا عن مثل هذه الضغوط. بل إن كثيرًا من القرارات الحساسة في تلك المرحلة جاءت في سياق ما بعد اتفاقية وادي عربة (1994)، حيث ازدادت القيود على حركة الأطراف الفاعلة غير المنسجمة مع الترتيبات الأمنية والسياسية الجديدة في المنطقة.
قطر كوسيط: بين الدور الإقليمي والاتهامات قبول قطر باستضافة قادة حماس كان، بحسب تصريحات الشيخ محمد، جزءًا من صفقة أوسع هدفت إلى إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع الحركة من خلال وسيط موثوق لدى مختلف الأطراف. بهذا المعنى، لعبت الدوحة دورًا مزدوجًا: فهي من جهة قدّمت نفسها وسيطًا ضروريًا في الملفات الفلسطينية، ومن جهة أخرى وفرت مظلة سياسية للحركة مكّنتها من البقاء لاعبًا رئيسيًا في الساحة الإقليمية. غير أن هذا الدور لم يخلُ من كلفة. فقد تعرضت قطر مرارًا لانتقادات من أطراف عربية وغربية تتهمها بـ“احتضان” حماس.
لكن التصريحات الأخيرة تعيد صياغة المعادلة: لم تكن قطر تتحرك وحدها، بل كانت تنفذ دورًا تم التفاهم عليه مع واشنطن وتل أبيب، وهو ما يطرح إشكالية أعمق حول طبيعة السياسات الإقليمية في المنطقة. أزمة السيادة في العالم العربي المعطيات التي ظهرت مؤخرًا تضعنا أمام معضلة أكبر: كيف يمكن فهم مفهوم “السيادة الوطنية” في عالم عربي غالبًا ما تُصاغ قراراته الكبرى خارج حدوده؟ حين يكتشف المواطن أن قرارات مصيرية مثل إبعاد حركات سياسية أو استضافتها جاءت بضغط خارجي أو ضمن ترتيبات دولية، فإن الثقة بخطاب “القرار السيادي” تتراجع إلى حد كبير.
وهنا تتجلى الأزمة: الأنظمة العربية كثيرًا ما تقدم قراراتها على أنها تعبير عن إرادة داخلية، بينما الواقع يشير إلى أن هامش الاستقلالية محدود بفعل ارتباطات أمنية وسياسية واقتصادية مع القوى الكبرى. وفي حالات مثل ملف حماس، يصبح القرار انعكاسًا لمعادلة معقدة تجمع بين رغبات واشنطن، مخاوف إسرائيل، وحسابات العواصم العربية المعنية.
إن مراجعة مثل هذه الأحداث ليست مجرد تمرين تاريخي، بل هي محاولة لفهم أعمق لطبيعة العلاقات الإقليمية والدولية. فقرار إخراج حماس من الأردن، أو استضافتها في قطر، لا يمكن عزله عن شبكة أوسع من التوازنات التي تتحكم في المنطقة. لكن الدرس الأهم هنا هو أن غياب الشفافية في مثل هذه الملفات لا يضعف فقط مصداقية الحكومات أمام شعوبها، بل يخلق فراغًا يُملأ بالتأويلات والشائعات. وإذا أرادت الدول العربية استعادة جزء من ثقة مواطنيها، فإن أول ما تحتاج إليه هو الصراحة في كشف الملابسات الحقيقية للقرارات المصيرية، حتى لو كانت تلك القرارات نتيجة لضغوط خارجية.
إن الإشكالية التي تكشفها تصريحات الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني تتجاوز ملف حماس لتطرح سؤالًا أكبر: إلى أي مدى يمكن للعالم العربي أن يحافظ على استقلال قراره السياسي في ظل شبكة التحالفات والضغوط الدولية؟
طالما بقيت الإرادة الوطنية رهينة حسابات الخارج، ستبقى السيادة العربية شعارات أكثر منها واقعًا. وما تحتاجه المنطقة اليوم ليس فقط إعادة النظر في سياساتها تجاه الحركات والتيارات، بل وقبل ذلك إعادة بناء مفهوم السيادة على أسس أكثر صلابة، بحيث تُتخذ القرارات المصيرية بما يخدم مصالح الشعوب أولًا، لا بما يرضي القوى الكبرى.



