اراء

رفح تكتب بيانها الأخير بالدم .. حين قاتل الشعب بلا زاد

بقلم: د. أميرة فؤاد النحال..

كانت رفح الخاتمة المفتوحة للتأريخ حين عجز العالم عن كتابة جملة حق واحدة، حيث يبلغ الحصار ذروته، ويبلغ الجوع حدَّه السياسي، ويبلغ الخذلان مستوى الخيانة الصامتة، ارتفعت رفح بوصفها آخر قلاع معنى الصمود حين انهارت كل المعاني من حولها.

هذه ليست معركة بقاء، فالبقاء غريزة، وما حدث في رفح كان قراراً واعياً بالصعود فوق غريزة النجاة، خرج رجالها ليحرسوا آخر تعريف شريف للحياة ذاتها، في رفح انكشفت الأكاذيب الكبرى من كذبة المجتمع الدولي، كذبة الحياد، كذبة إنقاذ المدنيين، وسقط مقابلها تعريف واحد لا يقبل المساومة أن الدم حين يُسفك دفاعاً عن الأرض يكون وثيقة سيادة.

هنا لم تحارب الأجساد وحدها، إنّما قاتلت المفاهيم، مفهوم الهزيمة، مفهوم الاستسلام، مفهوم النجاة الفردية، ومفهوم القيادة المعزولة عن شعبها، وفي رفح سقطت هذه المفاهيم دفعة واحدة، وصعد بدلاً منها نموذج السيادة الجريحة، حيث سيادة تُنتزع تحت الحصار، وتتغذّى من الجوع، وتتعالى فوق الخذلان.

من رفح لم يخرج صراخ استغاثة، إنّما خرج بيان اتهام للتأريخ، أن هذا العالم رأى، وفهم، وقرّر ألا يتدخّل، فصار شريكاً كامل الصلاحيات في الجريمة.

رفح العاصمة المعنوية للصمود الفلسطيني

في الأزمنة العادية تُعرَّف المدن بوظيفتها العمرانية، أما في لحظات الانكشاف الوجودي فتُعرَّف بوظيفتها التأريخية، ورفح في هذه اللحظة خرجت من تعريف المدينة المنكوبة إلى مقام الفاعل السياسي–الأخلاقي الذي يعيد صياغة سؤال: من نحن؟ وكيف نقاتل؟ وبأي وعي نموت ونحيا؟

رجال رفح قاتلوا بوصفهم حَمَلة مشروع كرامة، فالجوع الذي أُريد له أن يكون أداة إخضاع تحوّل إلى رافعة صلابة، والخذلان الذي خُطّط له أن يكون كسراً للإرادة انقلب إلى وقود مواجهة، هنا كان الجوع دليلاً على نقاء المعركة من شوائب الدعم المشروط، ولم يكن انعدام الزاد مؤشر عجز، كان علامة على أن الميدان صار اختباراً خالصاً للإيمان بالمعنى وحده.

هنا وحين نفد الزاد، لم ينكسروا، إنّما بدأت المعركة الحقيقية حين لم يبقَ سوى الجسد في مواجهة آلة الإبادة، في تلك اللحظة أصبحت القدرة على الثبات بلا سند هي أعلى درجات الردع.

من سردية الضحية إلى سردية العزّ

في قلب رفح، حيث يختلط الركام بالغضب والغبار بالدم، كانت المعركة اشتباكا على معنى الوجود نفسه، فالاحتلال أراد غزة صورة تثير الشفقة، لكنه صادف مدينة رفضت أن تكون عرضاً للعطف الدولي، ورفضت أن يتحول دم أبنائها إلى مادة للتسوية العاطفية، هنا انقلبت سردية الضحية إلى سردية العزّ، لتصبح غزة مختبراً سياسياً للأمم التي اعتادت قراءة الفلسطيني على أنه مجرد ضحية، لا صانع قرار، ولا حامل مشروع، فكل مشهد من الصمود، وكل جسد يقاتل بلا زاد، وكل دم يسطر الرواية، هو تحصين سياسي للرواية الفلسطينية، إذ أصبح التوثيق سلاحاً يواجه ماكينة تزوير التأريخ والحقائق، ويثبت أن المقاومة فعل حي، قائم على خيار واعٍ وإرادة لا تُقهر.

بين التفاوض والميدان.. وحدة الدم والقرار

في اللحظة التي جلس فيها غازي حمد على طاولة التفاوض، كانت يده ممدودة للدفاع عن شعب كامل، بينما كانت يد نجله في رفح تخوض المعركة في قلب الأرض نفسها، هذا المشهد لم يُمثل رمزا سياسيا صارخا يُسقط الفصل المصطنع الذي حاول الاحتلال فرضه بين القيادة والميدان، بين السياسة والدم، بين الاستراتيجية والمواجهة الحقيقية، هنا تجلت وحدة القرار المقاوم في أبهى صورها، حيث لم يعد هناك فرق بين من يفاوض بالبيانات والمُطالِب، ومن يقاتل بالرصاص والدم، الدم نفسه الذي يسري في جسد المقاتل، يصبح امتداداً للقرار السياسي، والقرار السياسي يصبح امتداداً للدم، لتتحقق الامتزاجية الكاملة بين الإرادة الوطنية والمعركة الفعلية.

أبناء القادة في الصفوف الأولى

استشهاد نجل غازي حمد قبل أيام وقبله ارتقى نجل باسم نعيم -عضو الوفد المفاوض- وقبلها ارتقى نجل خليل الحية – رئيس الوفد المفاوض-، هذا لم يكن حدثاً يضاف إلى سجل الشهداء، إنّما وثيقة سياسية دامغة تُثبت أن المقاومة ليست مجرد شعار، وأن القيادة ليست في مأمن من كلفة الخيار، حين يقف أبناء القادة في الصفوف الأمامية، يتحطم تصور الامتياز التقليدي الذي حاولت بعض الروايات الخارجية فرضه، ويصعد مقياس المصداقية الوطنية إلى أعلى درجاته، وهنا تتحول الشهادة من فعل شخصي إلى التزام عملي يُدفع ثمنه على الأرض نفسها التي يُدافع عنها الجميع.

الدم كوثيقة والسيادة كخيار

رفح لم تسقط، ولم تنتظر رحمة العالم، ولم تُحوّل صمودها إلى مجرد مشهد استعطاف، هنا حيث تنهار معادلات القوة، ويغدو الجوع حاكماً على كل الإمكانيات، خرجت المدينة لتكتب صفحة العزّ الكبرى، الدم الذي سُفك كان وثيقة سياسية وحضارية تُثبت أن السيادة تُنتزع بالإرادة، وأن المقاومة هي التزام عملي على الأرض، في الميدان، وفي طاولة التفاوض، في قلب كل عائلة صامدة.

الدرس الأخير الذي تتركه رفح واضح، أنّ الدم هو أعلى درجات التأكيد على أن السيادة خيار، وأن العزّ موقف، وأن البطولة فعل دائم ومطلوب من الجميع، من القائد إلى أصغر مقاتل، ومن الأرض إلى الطاولة السياسية.

في رفح، أصبح الدم حارساً للرواية، وصرخة المدينة أقوى من كل البيانات الدولية، والرسالة واضحة: من أراد أن يفهم فلسطين، فليفهمها من رفح أولاً، حيث الإرادة تعانق الموت لتُعطي الحياة معنًى حقيقياً للحرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى