مروان البرغوثي.. أسطورة الزنزانة ووعد فلسطين الأخير

بقلم: د. لينا الطبال..
دعكم من كل هذا الضجيج البائس والأوهام، الحقيقة الوحيدة الصارخة، التي يعرفها الجميع ويتجاهلها البعض، هي هذه: مروان البرغوثي هو رئيس فلسطين بلا منازع. نعم! هو هناك، في الزنزانة الرطبة، يتنفس حياة لا تشبه الحياة التي نعيشها. لكن… أليس السجن هو المصير الطبيعي للقادة في هذا الشرق الأوسط المتعفن؟.
هذا ليس رأياَ، هذه نبوءة تُبعث من الرماد الفلسطينيّ.. المستقبل القريب واضح: سيخرج أبو القسام، شاحباَ، نحيفاَ، حاملاَ معه كل تأريخ النضال ومرارة السجن، ليَتسلم قيادة أرض أصبحت، في غيابه، أكثر فساداً ويأساً ودماراً… سيتلقفه الشعب كـ”مانديلا” جديد، ويُصبح بذلك أول رئيس لفلسطين لا يُدين لأحد من الخارج بقراره.
أنتم تعرفون أن هذا القائد القادم محصّن بعزيمة لا تُقهر. نعم، هو أكثر حصانة من أي رئيس يجلس على عرش في قصر من ذهب. حصانته هي العدم النبيل الذي اكتسبه من القيد.
هو الآن القوة الدافعة لتفكيك الواقع المأساوي. بالطبع!
لأن المناضل الذي وحّد الفصائل من خلف القضبان يملك مفتاح حلّ هذه المعضلة الغريبة، إثبات أن القوة المطلقة تكمن في الضعف المطلق.
لا تقلقوا.. كل تلك الاتفاقيات الدولية ومواثيق الهزيمة المتراكمة، سيواجهها مروان بناموس صنعته سيرة سجنه…
الحرس القديم سيقضي عليهم واحداً تلو الآخر… لا تبتسموا كثيراً، أيها السُذج واسمعوا جيداً: سيَقضى على فسادِكم بتفويض شعبي كاسح.
نتنياهو على موعد مع كابوسه الأكبر: القائد سيتحرر أخيراَ… سيخرج مروان البرغوثي ليصبح لعنة على احتلالكم، وهو الآن يضحك في زنزانته الضيقة… هو يسخر منكم، وهو الوحيد القادر على السخرية منهم… وهذا في حد ذاته كافٍ.
نعم، المستقبل لا يحمل المعجزات، لكنه يحمل مروان البرغوثي… أسير سابق يعرف قواعد اللعبة من الداخل أكثر من أي أحد. لا حاجة للمدافع ولا للصواريخ، وجوده وحده يكفي ليقلب إسرائيل رأساً على عقب، مسلحاً بقوة لا يمكن قصفها أو تحطيمها، هل هناك سلاح أقوى من هذا في زمن المقاومة؟ لا أظن.
المقاومة، يا سادة، هي فعل المستحيل، فعل يتحدى قيود الزنازين وتهديدات الموت.
وبالحديث عن التهديدات، هناك بن غفير، الشخصية الكرتونية… هو الآن في أوج انتصاراته الوهمية. يعتبر تصفية وإعدام الأبطال (طبق أساطيره) هي هدف في قائمة مطامحه الطويلة.
لكن لا شيء يوقظ الرأس الفارغ.. بن غفير ينطلق بأقصى سرعة، يصطدم بالجدار، يسقط في كل مرة، وربما قد يشعر الجدار بالشفقة عليه… لكنه ينهض مجددا، يتفاخر بسقوطه كما لو كانت انتصاراً، يلهث ويضحك لنفسه، يسقط ويسقط، ثم ينهض ليكرر نفس الشيء، إنه يهوى الاصطدام تماما مثل من يجد فيه معنى الوجود. يا للغباء! المشهد مضحك، مرعب، ومأساوي، لكنه سخيف… تلك هي إسرائيل حين يحكمها من يظن أن الصدام مع الحقيقة بطولة.
في الزنزانة، يُواجه مروان المناضل كل أنواع الإهانات والتعذيب. وقد عرض بن غفير لقطات له وهو شاحب ونحيف بشكل واضح… هزيل، لكن في عينيه شيء يجعلك تخجل.. شاحب، لكنه جميل بتلك الطريقة التي لا يحتملها الجلاد.
بن غفير، الأحمق المسرور بنفسه، يعرض الصور ولا يدرك أن من في الصورة هو الذي انتصر.. جسده فيه كسور، ضلوعه ومفاصله ممزقة، لكن مروان البرغوثي مازال يحمل فلسطين على كتفيه.. وطبعا دون أن يلتفت إلى الغباء من حوله.
في خضم كل هذا، يطل علينا ترامب، يزين حديثه بشعارات الحرية والديمقراطية… يا لفكاهة الأشقر، يخرج ليُعلن أن إطلاق سراح مروان هو أولوية، هل هو مهتم حقاَ؟ لا نعلم.
هل النية حقيقية، أو فقط محاولة لإعادة تنظيم صورته على الساحة الدولية؟.
إطلاق سراح مروان البرغوثي هو دون شك سلاح سياسي في لعبة كبيرة، ترامب يلوّح بالتصريحات أمام الداخل الأمريكي ليبدو ملتزماً، أمام العالم ليظهر كلاعب مؤثر، وأمام القوى الإقليمية يحاول ترتيب التحالفات والضغط على إسرائيل.
التصاريح هنا وهناك هي أوراق تُحَرَك على الطاولة الدولية… القوة الحقيقية، يا سادة، هي في صمود المناضل الذي لا يُقهر، هو الذي يسيطر على اللعبة كلها دون أن يتحرك.
كل الوعود، كل الشعارات تسقط أمام وجوده الثابت، الزنزانة نفسها صاغت منه قوة لا تستطيع أية قوة خارجية فهمها.
وفي النهاية، يبقى مروان البرغوثي “مانديلا فلسطين” معضلة الجميع بسبب:
-إسرائيل تكرهه لأنها تخافه، وتخافه لأنها تعرف أنه حي أكثر من حكوماتها المرصعة بالغرور.
-السلطة الفلسطينية تكرهه أكثر، لأنه يذكّرها بكل ما باعته بثمن رخيص… آه، كم هو مثير للسخرية هذا العالم.
هذا ليس مقالاَ عن السياسة، هذا مقال عن الأنطولوجيا، عن فن الوجود ذاته، وعن مروان البرغوثي، المناضل الذي أتقن فن الوجود المضاد.
من قال لكم، ان القوة تكمن في إطلاق السراح؟ القوة هي في أن يصبح السجين أقوى من مُطلق سراحه. هذا هو جوهر المسألة… وهذا هو وعد فلسطين الأخير.



