اراء

لا مقاومة بعد اليوم مع خطة ترامب فما هو مصير العرب؟

بقلم: د. بسام روبين..
لقد جاء ترامب إلى المنطقة بخطة ظاهرها السلام وباطنها التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية وإسكات أصوات المقاومة إلى الأبد هذه الخطة لم تكن مجرد مقترح تفاوضي عابر، بل كانت مشروعاً متكاملاً يراد له أن يكون السقف الأعلى للسياسة العربية، بحيث يُعاد تشكيل المنطقة كلها على مقاس الأمن الإسرائيلي، ويُفرض على العرب نمط جديد من التفكير يقوم على أن “المقاومة إرهاب” وأن “الاستسلام حكمة سياسية” وأن “التطبيع قدر محتوم”.
الخطر لم يكن في تقسيم الأرض وحدها، ولا في تهويد القدس، بل في محاولة اقتلاع الهوية من جذورها وإعادة صياغة وعي الأجيال العربية، بحيث يكبر الطفل العربي وهو يظن أن إسرائيل كيان طبيعي، وأن كل من يقاومها هو عدو للاستقرار وهذه الخطة استخدمت أدوات متعددة: تارة عبر القوة الناعمة من خلال الإعلام والثقافة، وتارة عبر الابتزاز الاقتصادي والسياسي، وتارة عبر التحالفات العسكرية التي صبت كلها في خدمة أمن إسرائيل ،وبذلك تم تسليم القرار العربي إلى البيت الأبيض،
إن توقف المقاومة لا سمح الله يعني عملياً نهاية آخر أوراق القوة العربية في مواجهة المشروع الصهيوني، فالجيوش مكبلة بمعاهدات وموازنات لا تسمح لها بالتحرك، والاقتصادات منهكة بالديون لذلك فإن الكيان الإسرائيلي سيتمدّد بلا حدود، وأن فلسطين ستتحول إلى مجرد ذكرى في كتب التاريخ، تماماً كما حدث لبلاد الأندلس التي ضاعت حين سقط السيف.
لكن الأخطر في خطة ترامب لم يكن سياسياً فحسب بل اقتصادياً أيضاً. فهذه الخطة هدفت إلى تجريد العرب من عناصر قوتهم المادية والمالية، وتحويل ثرواتهم إلى أدوات ابتزاز دائمة، فالمساعدات والقروض لم تعد سوى قيود اقتصادية جديدة، تفرض شروطاً مذلة، تجعل القرار السيادي مرهوناً بمكاتب واشنطن وصناديق النقد والبنك الدولي، وتم دفع الدول العربية نحو خصخصة مرافقها الحيوية وبيع أصولها الوطنية تحت شعار الإصلاح الاقتصادي، بينما الهدف الحقيقي كان تمكين الشركات الغربية والإسرائيلية من التحكم في الموارد العربية وإفراغ خزائن الشعوب.
وقد سعت الخطة إلى تحويل النفط والغاز من عناصر قوة إلى عناصر ضعف، فأصبح المورد الذي يُفترض أن يحمي الأمة سيفاً مسلطاً عليها، يستخدم للضغط عليها وتوجيه سياساتها. وأصبحت ثروات الامه مجرد ودائع لدى البنوك الغربية أو استثمارات في أسواق تخدم الاقتصاد الأمريكي، بينما شعوب المنطقة غارقين في بطالة مرتفعة وفقر متزايد. ولم تكتف الخطة بذلك، بل عملت على ملاحقة المؤسسات والجمعيات التي تدعم المقاومة، ووسمها بالإرهاب وتجفيف منابعها المالية، حتى يعيش المقاوم محاصراً سياسياً ومادياً في آن واحد.
ومصير العرب إذا استسلموا لهذه الخطة هو التفكك والتلاشي التدريجي. فالدول التي لا تقاوم تُبتلع واحدة تلو الأخرى، والأنظمة التي تراهن على حماية واشنطن ستكتشف في النهاية أنها مجرد أدوات للاستنزاف، وأنها عند أول منعطف ستُرمى جانباً بلا اعتبار. وستجد الشعوب نفسها أمام واقع قاتم: بطالة مرتفعة، فقر مدقع، انعدام فرص، واستمرار هجرة العقول والكفاءات. وسيتحوّل العرب جميعاً إلى مجرد خزان بشري ومالي يستخدم لحماية إسرائيل وضمان أمنها، فيما تُدار ثرواتهم لمصلحة الغرب ويُترك أبناؤهم غارقين في صراعات داخلية ونزاعات مذهبية وقبلية.
ولا بد من القول أن المقاومة لم تكن يوماً مجرد بندقية أو عملية عسكرية، بل مشروع متكامل يجمع بين السياسة والاقتصاد والهوية. فهي حركة وعي قبل أن تكون حركة سلاح، وهي حائط الصد الأخير في وجه مشاريع التفتيت. والحديث عن إلغاء المقاومة يعني عملياً إلغاء آخر خط دفاع للأمة، وإذا سقط هذا الخط فإن الأمن القومي العربي سينهار انهياراً غير مسبوق، وستتحول المنطقة إلى ساحة نفوذ مفتوحة لواشنطن وتل أبيب، وربما تُعاد رسم حدودها من جديد وفق مصالح الآخرين، كما جرى بعد الحرب العالمية الأولى.
ولكي ندرك حجم الخطر، يكفي أن نتأمل حال الدول التي تخلت عن خيار المقاومة. بعضها دخل في اتفاقيات سلام وهمية لم تجلب له إلا التبعية، وبعضها تورط في تحالفات عسكرية خاسرة أرهقت اقتصاده وأفقدته قراره.
واليوم نرى بأعيننا كيف أن دولاً عربية بأكملها تعيش على الهامش، بعد أن فقدت قرارها السياسي والاقتصادي. ومن يظن أن واشنطن تحميه واهم، فالتجارب أوضحت أن أمريكا لا تعرف سوى لغة المصلحة، وأنها تتخلى عن أقرب حلفائها إذا انتهت صلاحيتهم أو إذا تعارضت مصالحهم مع مصالح إسرائيل.
وخطة ترامب ليست سوى حلقة جديدة في مسلسل استنزاف العرب، فهي تفرض على الدول أن تكون أسواقاً للمنتجات الأمريكية والإسرائيلية، ومستهلكة دائماً للتكنولوجيا والسلاح، دون أن تمتلك حق تطوير صناعاتها أو حماية أسواقها. وبذلك تبقى عجلة الاقتصاد العربي رهينة للخارج، ويظل المواطن العربي محروماً من أبسط حقوقه في التنمية والعدالة.

وما نراه اليوم من بطالة تتجاوز نسباً كارثية في بعض الدول، ومن مديونية خانقة تبتلع الموازنات، ومن فساد يلتهم مقدرات الشعوب، ليس إلا نتائج مباشرة لهذا النهج.
إن هذه الخطة تضعنا أمام مشهد تاريخي فارق إما أن تتمسك الشعوب بخيار المقاومة بمعناه الشامل، أو أن تستسلم لمشروع يهدف إلى محوها من التاريخ. فالمقاومة اليوم لم تعد ترفاً ولا خياراً ثانوياً، بل أصبحت شرطاً أساسياً للبقاء ،وهي ليست محصورة في السلاح فقط، بل تشمل بناء اقتصاد وطني قوي، وترفض التبعية المالية، وتبني سياسات تكاملية إقليمية تخلق مناعة داخلية ضد الضغوط الخارجية. ومن دون ذلك، ستبقى الأمة عارية، معرضة لكل أشكال الابتزاز والهيمنة.
وقد علمنا التاريخ أن الشعوب التي تفرط في مقاومتها تضيع، وأن الأنظمة التي تبيع نفسها للأجنبي تنتهي بلا كرامة. واليوم يتكرر المشهد نفسه، ولكن بأدوات أكثر خبثاً ودهاءً، فالمقاومة لم تعد مجرد مواجهة عسكرية على الحدود، بل مواجهة شاملة ضد كل مشاريع السيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية ،ولهذا فإن شعار “لا مقاومة بعد اليوم” ليس مجرد جملة عابرة، بل إعلان رسمي عن استسلام كامل، وعن قبول مسبق بأن تتحول الأمة إلى تابع ذليل.
ويبقى الأمل معقوداً على الشعوب العربية، فهي التي أثبتت عبر التاريخ أنها لا تموت، وأنها قادرة على إحياء مشروع المقاومة مهما حاولت أمريكا دفنه. فالمعادلة واضحة وصريحة: إما مقاومة تحفظ الكرامة والسيادة والاقتصاد، أو استسلام يجلب الضياع والتفكك والذل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى