اراء

المدخلية.. استعادة لذاكرة الدم

بقلم/ مصطفى جواد..
المدخلية، نسبةً إلى الشيخ السعودي ربيع بن هادي المدخلي (1933-2025)، تيار سلفي وُلد في السعودية مطلع تسعينيات القرن الماضي، ثم تمدّد إلى دول عربية أخرى. يقوم هذا التيار على ركيزتين أساسيتين: الولاء المطلق للسلطة الحاكمة، والطاعة الكاملة للحكّام مهما كانت سياساتهم، مقابل الهجوم المستمر على الخصوم، خصوصاً من التيارات الإسلامية الأخرى.
انبثقت الحركة المدخلية إبَّانَ حرب الخليج الثانية (1990 – 1991) كردّ فعل على رفض معظم التيارات الإسلامية الاستعانة بالقوات الأمريكية لإخراج الجيش العراقي من الكويت، انطلاقاً من قاعدة شرعية مُفادها: “لا يُستعان بغير المسلم لقتال المسلم”. في مواجهة هذا الموقف، كتب ربيع المدخلي كتابه الشهير “صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة بغير المسلمين” ليؤسّس لخطاب جديد يمنح الشرعية السياسية للسلطات السعودية في خياراتها الدولية.
وجدت العائلة المالكة في السعودية في المدخلية أداة موازنة داخلية أمام تيارات إسلامية متنامية تميل إلى الانخراط في السياسة، وهو ما كانت الرياض تريد تجنّبه في فضاءات الجامعات والمساجد. ومنذ ذلك الحين ترسّخ أصلٌ مدخلي يقوم على أنّ “المتغلب تجب طاعته حقناً للدماء، وإذا تغلّب آخر انتقلت الطاعة إليه”.
هذا المبدأ كان البوابة التي مكّنت التيار من نسج تحالفات مع سلطات وأنظمة متباينة: من عبد الفتاح السيسي في مصر، إلى خليفة حفتر في ليبيا، وصولاً إلى الشراكة مع القوات الإماراتية في اليمن.
في العراق، لم يكن للمدخلية قبل 2003 سوى وجود محدود على شكل خلايا فردية متفرّقة. لكن الغزو الأمريكي وما تبعه من فراغ أمني وديني أتاح لهم فرصة ذهبية للتوسع، خصوصاً في مساجد حزام بغداد وبعض المدن السنّية.
عام 2007، ألقى زعيمهم المحلي أبو منار العلمي محاضرةً مثيرة للجدل حرّم فيها قتال القوات الأمريكية بحجّة “انتفاء شروط الجهاد”، مؤكداً وجوب طاعة “المتغلب” درءاً للفتنة، وأن إطلاق النار داخل المدن لا يُعد جهاداً شرعياً لأنه يعرّض المدنيين للخطر.
هذا الخطاب الانسحابي من السياسة والعنف، مع الإصرار على الطاعة، جعل المَداخِلة تياراً مفضلاً لدى الحكومات العراقية المتعاقبة. سرعان ما وجدوا لأنفسهم موطئ قدم داخل ديوان الوقف السُني، واكتسبوا قدرة على إقصاء أئمة منافسين وتعيين آخرين موالين، ما سمح لهم بالتمدّد على حساب تيارات سنّية أكثر تصادمية مع السلطة.
في 27 أيار/مايو 2025، خطت الدولة العراقية خطوة غير مسبوقة حين صنّفت “الحركة المدخلية” كـ حركة عالية الخطورة تهدّد السِّلم المجتمعي والأمن القومي، وذلك بموجب كتاب سرّي صادر عن مستشارية الأمن القومي وجرى توقيعه بموافقة رئيس الوزراء. القرار ألزم محافظي بغداد وكركوك وديالى والأنبار وصلاح الدين ونينوى بتفعيل الإجراءات القانونية ضد هذا التيار، بالتنسيق مع الاستخبارات والدفاع والداخلية والحشد الشعبي.
غير أنّ هذا القرار لم يُفعَّل فعلياً، بعدما تدخلت قوى سياسية سنية بارزة لعرقلة تطبيقه، لتستمر الحركة في نشر أفكارها داخل الأوساط السنية، وتتحوّل إلى منافس صريح للجماعات التقليدية مثل الإخوان المسلمين.
حادثة المهدية في الدورة ببغداد، حين قُتل الشيخ عبد الستار القرغولي إمام وخطيب جامع كريم الناصر على يد مجموعة مَدَاخِلة قدموا من منطقة الرضوانية، أعادت إلى الأذهان ذاكرة الاقتتال الفكري – المذهبي التي ظنّ العراقيون أنهم تجاوزوها منذ أكثر من عقد.
هكذا تكشف التجربة العراقية أنّ المدخلية، بما تطرحه من ولاء مطلق للحاكم وتخوين للمخالف، ليست مجرد مدرسة دعوية هامشية، بل عامل توتر مجتمعي وسياسي يمكن أن يتحول بسهولة إلى صراع دموي متى ما اختلّت التوازنات أو توفرت ظروف التحريض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى