كيف يصنع التطبيع في اللاوعي الجماهيري؟

بقلم: جمعة ارحيمة الفرطوسي..
في قلب الحروب والصراعات لا يُحسم الميدان فقط بالبارود والسلاح، بل بالأفكار والصور والمفردات فالمعركة الأولى والأخطر تبدأ في العقل، في اللاوعي الجمعي، حيث يُعاد تشكيل المفاهيم وتزييف الوعي، ليُصبح العدو شريكًا في السلام، وتُجرّم المقاومة بوصفها إرهابًا.
التطبيع ليس قرارًا سياسيًا فحسب، بل مشروع إعلامي طويل الأمد، يُسهم بهندسة الإدراك الشعبي تبدأ العملية بالتدرج تجريد القضية من رمزيتها، التهوين من الجُرم التأريخي، إعادة صياغة الصراع على أنه “نزاع حدود”، لا قضية احتلال واقتلاع يتكرر المحتوى نفسه “الطرفان لديهما معاناة”، “السلام هو الحل”، “لا جدوى من المقاومة”، حتى يتحول التكرار إلى قناعة، والحياد إلى خيانة مغلّفة.
الإعلام، وخاصة العربي، لعب دورًا خطيرًا في هذه المعركة الناعمة حين يختفي وصف “العدو” من الخطاب الإعلامي، ويُستبدل بمصطلحات مثل “الطرف الآخر”، حين يُستضاف المحللون الإسرائيليون في القنوات العربية كضيوف خبراء، تُنتزع من المشاهد مناعته المعرفية تُبث الأعمال الدرامية التي تُظهر اليهودي كجاره الطيب، والمقاوم كمتشدد معقد، فينقلب الوعي.
يُعاد تشكيل الشعوب بالصمت أكثر مما بالكلام، وبالإلهاء أكثر مما بالمنع حين يُغرق الإعلام الناس بالترفيه المفرغ من المضمون، ويُهمّش القضايا الكبرى، يُدفع اللاوعي الجماهيري إلى منطقة الخدر، ويُصبح الدفاع عن فلسطين “صخبًا لا طائل منه”، وغزة “مشكلة مزمنة”، والمقاومة “أزمة تهدد الاستقرار“.
ووسط هذا الخداع الممنهج، يتحول العدو إلى “جار طموح”، وتُصبح المقاومة عقبة أمام “السلام الإقليمي”. وهنا، يُنجز التطبيع أخطر مراحله ليس حين توقّع الحكومات اتفاقيات، بل حين تتصالح الشعوب مع العدو في وجدانها، وتخجل من رفع صوتها دفاعًا عن المظلوم.
إنها حرب على الذاكرة، على الفطرة، على الإيمان بالقضايا العادلة ومن لا يدرك هذه الحرب ، سيكون وَقودها دون أن يدري.