اخر الأخبار

مبدأ الحاكمية والولاية في الفقه السياسي الإسلامي

352

السيد عبد الامير علي خان
هذه اثارات في مجال الفقه السياسي الإسلامي، اردنا بها لفت النظر إلى ضرورة ملء الفراغ في هذا المجال من مجالات التفكير الإسلامي المطلوب في هذه المرحلة من مسيرة الامة، التي تكافح فيها لاستعادة سيادتها بسيادة الإسلام في حياتها.
مبدأ حكومة وسيادة الدين
وهو أول المبادئ السياسية في الإسلام، وأساس نظرية السياسة في الدين الإسلامي، وتعبير آخر عن حاكمية الله سبحانه وتعالى, هذا المبدأ هو الفيصل الفارق، بين المدرسة الإسلامية وبين غيرها من المدارس السياسية في هذا العالم، وهو يعني وجوب اتخاذ الدين أساساً لبناء السياسية للأمة وللمجموعة المسلمة وللفرد المسلم، واساساً لتمهيد تنظيم علاقات المسلمين مع غيرهم من الناس, وهذا المبدأ أقرب للعقيدة منه للفقه، لأنه من ضرورات الدين الاساسية، ومما يرتبط مباشرة بالتوحيد، ومنكره من غير شبهة لا مناص من الحكم عليه بالكفر لانه رادّ على الله ورسوله, ويمكن أن نصور هذا المبدأ على النحو الآتي:
• يجب الإيمان بأن الدين هو أساس بناء حياة الفرد المسلم، والمجموعة المسلمة والامة الإسلامية كلها؛ وعلى أساس هذا الايمان تتفرع مواد وقواعد وأحكام السياسة عند المسلم وعند المجتمع، فيتكون الدستور والقوانين والانظمة والمناهج والضوابط والمفاهيم والاعراف السياسية.
• تجب دراسة الإسلام، لأخذ الحكم أو الرأي في كل قضية من قضايا السياسة، كباقي جوانب الحياة بلا استثناء، ضمن وجوب التعلم والفحص عن الاحكام من اجل الالتزام والعمل، للتخلص من الوقوع في المخالفة.
• اذا وجد أو اتضح ان الإسلام يسمح للأمة أو لبعض الامة (كالفقهاء وكالممثلين الموكلين من قبل الامة) لأن يضعوا قضايا السياسة الفرعية أو الجوانب التنظيمية والفنية، فيجب الالتزام بالطريقة الشرعية أو المبدئية التي يفرضها الإسلام، أو تفرضها طبيعته، ويجب مراعاة الاحكام السياسية الثابتة ومراعاة أحكام الإسلام في كل جوانب الحياة، وروحه، وأهدافه التي يريد تحقيقها في هذه الحياة.
وهذا هو معنى حكومة الدين على الحياة السياسية؛ أي ان الدين يجب ان يقدَّم ويكون حاكماً على السياسة بأحكامه ومفاهيمه وروحه وأهدافه، وان تكون السياسة في خدمة الحضارة الدينية (أي الحضارة التي يقيمها الدين)، ومن العوامل المساعدة على تطبيقه وارساء سيادته في الحياة.
الأدلة من القرآن الكريم على مبدأ الولاية الالهية
• آيات ولاية الله سبحانه، وولاية الرسول (ص)، وولاية أهل البيت (ع): ومن الواضح ان من آيات الولاية ما تكون ارشادية إلى ما تفرضه العقيدة ويدركه العقل بان ولاية الله سبحانه ذاتية لا تحتاج إلى جعل، وانها مطلقة لا يتخلف عنها جانب من الحياة، وان كل ولاية سواها تكون محدودة. وما لم تكن مفروضة من الله سبحانه، أو مشرعة من الدين فإنها باطلة، واذا كانت مفروضة ومشروعة فهي مجعولة من قبل الله سبحانه,وكذلك آيات حصر الحكم لله سبحانه: إِنِ الحكمُ إلا لله فان إطلاقها يشمل الجانب السياسي، ويشعر ان السيادة السياسية لدين الله سبحانه، بل ان بعض الآيات ظاهر في السياسة بالدرجة الأولى، كالآيات التي تعبر عن القضاء بـ(الحكم)، والآيات التي تعبر به (أي الحكم) عن التشريع والتقنين، بل ان بعض الآيات، تعبر عن الاوامر الالهية السياسية بلفظ الحكم، كالآيات التي تأمر بالصبر على اذى المشركين حتى يأتي امر الله السياسي بالمباينة والمقاتلة, وهذا ولا يمكن تصور التسامح من قبل الإسلام في هذا المجال، لان السماح بجعل السيادة السياسية لغير الدين تعني السماح بنسخ الدين من قبل السيادة السياسية والتدبر في الفقه الإسلامي يوضح ان الإسلام صمم تشريعاته على أساس افتراض نفوذ سيادته العامة والمطلقة في شؤون الحياة.
• آيات طاعة الله سبحانه، وطاعة النبي (ص) وطاعة الأئمة (ع): فان اطلاق وعموم وجوب الطاعة يفرض سيادة الدين ولا استثناء.
• آيات وجوب اقامة الدين وتطبيق الكتاب ووجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر: فان اقامة الدين تشمل هذا المعنى ايضاً، لأن الدين تناول جميع جوانب الحياة، لأنه لا يقام حتى في الجوانب غير السياسية مع سيادة غيره، ولأن الكثير من جوانب الدين يجب ان تقام من مستوى السلطة التنفيذية وبالسيادة السياسية.
• آيات وجوب تطبيق أحكام الله سبحانه، واقامة حدوده وعدم تجاوزها، ووجوب الحكم بما انزل الله سبحانه: ان الكثير من الآيات، تأمر بوجوب إقامة الحدود، وتطبيق الدين، وتحذر من مخالفة الدين، ولم تستثنِ جانباً من الدين، بل ان الفقهاء جعلوا عنوان الحدود خاصاً بالأحكام التي تتطلب ان تكون السيادة للدين، ادراكاً منهم أن هذا اللفظ اقرب لهذا المعنى,والآيات التي تشدد النكير على الحكم بغير ما انزل الله سبحانه، وتؤكد وجوب الحكم بما انزل الله.
الأدلة من السنة الشريفة
الاحاديث التي تذكر وجوب الالتزام بالكتاب والسنة واقامة الدين، وتحذر من البدعة واتباع الهوى والعمل بغير علم وغير هدى وبصيرة, الأحاديث التي تؤكد شمول الإسلام لكل قضايا الحياة وان فيه تفصيل كل شيء, سيرة النبي (ص) وأهل بيته (ع) قامت على أساس مبدأ سيادة الدين في كل الحياة، والحياة السياسية بصورة خاصة، ولا يجوز الكفر بهذه السيرة من بعد النبي (ص) ولا في زمن غيبة الإمام (ع).
ان الامة الإسلامية في عهد الرسول (ص) وفي زمن الأئمة (ع) كانت تجمع على هذا المبدأ وتلتزم به بقوة ولم تتهاون فيه حتى في حالات ضعف التدين وضعف الالتزام، الى ان اجتاحت البلاد الإسلامية جيوشُ الاستعمار الكافر وتيارات الحضارة الغربية، التي أوجدها المستعمرون في بلادنا، ووجهوا بموجبها وبالإجراءات العملية الحياة السياسية وجهةً غير إسلامية، فطهرت فكرة فصل الدين عن الدولة، أو الفصل بين الدين والسياسة.
مبدأ سيادة الولاية بين المسلمين
ومعنى ذلك ان المسلمين أمة واحدة من دون الناس، ولهم كيان سياسي لا يشركهم به غيرهم ابداً، وان العلاقة السياسية بينهم علاقة شرعية مجعولة من الله سبحانه، وعليها تقام حياتهم السياسية من جميع الوجوه وفي كل الاحوال, وهذه الولاية تأتي في المرتبة الثالثة من تسلسل مستويات الولاية في الإسلام، حيث تكون ولاية الله في المرتبة الاولى، وتكون هي الأساس الاول والاصلي للولاية في الإسلام، لأنها ذاتية غير مجعولة ومطلقة غير محدودة، وبها جعل الله سبحانه ولاية الرسول (ص) وولاية أهل بيته (ع), وفي الوقت الحاضر (زمن غيبة الامام المعصوم ـ ع ـ) تكون الولاية بين المسلمين هي المبدأ العام الفعلي، الذي ينتظم به المسلمون بكيان سياسي واحد في ظل سيادة الدين والولاء للنبي (ص) على اختلاف اجتهاداتهم ومواقفهم من مبدأ خلافة النبي (ص), ولهذا المبدأ الاساس ابعاد واسعة جداً تغطي كل مساحة السياسة، نذكر منها فيما يأتي نقاطاً رئيسةً على سبيل المثال، ونعرض تصوير خطورة هذا المبدأ العقائدي والفقهي العام:
• ولاء وانتماء المسلم السياسي لا يكون إلا على أساس هذه الولاية، فلا يكون المسلم جزءاً من حالة سياسية مع غير المسلمين.
• هذه الولاية تكون أساساً لمشروعية التشريع والتخطيط والتنظيم لشؤون الحياة في ما لم يكن فيه حكم ثابت (أي منطقة الفراغ) ولا يكون ذلك مشروعاً على أساس آخر غير هذه الولاية، لأن شؤون السياسة لا تنحصر بدائرة القائمين بها، وانما تتعدى ذلك الى دائرة اوسع، حيث تمتد إلى المجتمع الحاضر وإلى الغائبين منه، وإلى الذين سيأتون في زمان لاحق، وإلى القاصرين الذين لا يستطيعون المشاركة في التشريع أو التخطيط أو التنظيم، حتى من مستوى التوكيل والتمثيل والانتخاب، فلا مشروعية للتصرف فيهم وفي شؤونهم وأحوالهم بدون اذن، أو تشريع من الله سبحانه، وقد جعل الله سبحانه المسلمين أمة واحدة في كل الازمنة وكل البقاع، بعضهم من بعض، وبعضهم اولى ببعض، ولن يجعل الله ولاية لغيرهم عليهم ولا على بعضهم.
• الأمر والنهي (وهما من متطلبات السياسة)، ولا يصحان إلا على أساس هذه الرابطة وهذا الجعل التشريعي من المولى عز اسمُهُ، اذ لا يصح ان يأمر احدٌ غيرهُ بشيءٍ لأن ذلك تصرف بالآخرين، ولكن الله سبحانه سوغ للمسلمين أن يأمر بعضهم بعضاً بالمعروف وبما فيه المصلحة، وأن ينهى بعضهم بعضاً عن المنكر وعمّا فيه مخالفة للصالح العام.
• فرض اقامة الوحدة السياسية والمحافظة عليها لا يُوجه إلا على أساس الولاية الإسلاميه وفرضها من قبل الله تعالى.
• العمل السياسي والدعوة الى الافكار والآراء السياسية لا تصح الا على اساس هذه الولاية، لأن ذلك تدخل في شؤون الآخرين ويؤدي الى التأثير على حياتهم، ولكن الله سبحانه جعل المسلمين مسؤولين بعضهم عن بعضهم الآخر وفرض على كل منهم الاهتمام بأمر الآخرين.
• شكل الحكم لا يتجه إلا على اساس هذه الولاية، لأن المسلمين بين مسلكين في هذا المجال: مسلك التنصيب الالهي من مستوى تنصيب الامامة، ثم تنصيب الامام للفقيه (على وفق مبدأ ولاية الفقيه) ومسلك الشورى، ومبدأ الرابطة الإسلامية، هو الذي يحكم المسلمين من الطرفين.
هذا وقد جعل الإسلام الدين اساساً لتقسيم الناس سياسياً، فصنفهم على اساس الدين، دون الاسس الاخرى؛ فجعل المسلمين صنفاً واحداً متميزاً، وجعل غير المسلمين صنفين: صنف أهل الكتاب، وصنف المشركين.
الأدلة من السنة
سيرة النبي (ص) وسيرة أهل بيته (ع) قامت على اساس اعتبار المسلمين امة واحدة، وان الولاية الإسلامية هي التي يجب ان تسود في الحياة السياسية، وان لا ولاية بين المسلم والكافر, ومؤاخاة النبي (ص) بين المسلمين في مكة وفي المدينة ولعدة مرات، وبأشكال متعددة، وكتابة الكتاب بينهم، انما كانت من أجل تطبيق مبدأ الولاية بين المسلمين,الاحاديث التي تبين الاحكام الفقهية والقضائية التي تترتب على هذه الولاية، مثل احكام الطهارة والارث والديات والقصاص والشهادة، وأحكام القضاء بين الناس والحدود، واحكام الحرب والسلم، وحقوق المسلمين فيما بينهم.
دليل الاجماع
وقد قام الاجماع بين الأمة ككل، وبين الفقهاء جميعاً من زمن النبي (ص) والى أكثر من ثلاثة عشر قرناً على هذا المبدأ الاساس، ولم تنحرف الامة عن مبدأ سيادة الرابطة الإسلامية وقدسيتها الا بعد ان احتلت جيوش الكفر بلاد المسلمين وقوضت الكيان السياسي للمسلمين، واقامت كيانات سياسية على أسس أخرى، ووجهتها بمبادئ وضوابط واحكام متباينة ومتناقضة، وقسمت بلاد المسلمين الى مقاطعات ودويلات، على اسس غير إسلامية، بعد ان وضعت على خارطة العالم الإسلامي خطوطاً حمرا، جعلتها حدوداً بين تلكم الدويلات، وأعطتها من سطوة الاستعمار وبريق حضارته شرعية زائفة، واضفت عليها قدسية مزخرفة وهمية، فاحترمها بعض ابناء الامة مبهورين أو مقهورين أو منحرفين انتهازيين، ورضوا لأنفسهم ادوار عمالة وتبعية للعدو الكافر,فأصبح الجو السياسي مشحوناً بأعراف ومثُل وقيم مزيفة ومزخرفة، توجهت بموجبها اجهزة التربية والتعليم والاعلام والبحث والتأليف والنشر، فسرعان ما تربى عليها المسلمون وتطبّعوا، فأصبحوا وكأنهم لم يمروا بواقع سياسي قائم على اساس الرابطة الإسلامية، واصبح الحديث فيه اقرب الى الحديث النظري والفلسفي، واصبحت مشكلة الأمة اليوم فقدان وعي قدسية الولاية الإسلامية، وضعف الدافع الإسلامي في السياسة والعمل السياسي، وفي البناء السياسي. واصبح الدافع الديني في السياسة عند اهل الاديان الباطلة الخاوية اقوى واكثر حيوية من الدافع الديني عند المسلمين، واصبح حكام المسلمين زبانية لحماية مقولة إبعاد الدين عن السياسة، واقصاء اعتبار الرابطة الإسلامية في شؤون السياسة، ولم يلتفتوا الى مدى رعب الاستعمار من كلمة (دين) في السياسة في بلادنا، وبين المسلمين اينما حلّوا، مع انه لا يعيب هذه الكلمة في الاوساط المسيحية واليهودية، وحتى اوساط المشركين اينما حلوا، حتى المتوحشة منها, والاجماع في تلك القرون المتطاولة حجة على المسلمين بخلاف الغلفة التي يمرون فيها الآن، فإنها شذوذ وانحراف ولا قيمة شرعية لها، فلا ينبغي ان تؤثر على التفكير والبحث والدراسة والوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى