إسرائيل التي تعيش على حافة الهاوية تبحث عن حرب بلا نهاية

بقلم: د. لينا الطبال..
اسرائيل هي كيان لا يقوم إلا على نقيضه، ويربط بقاءه باستمرار الاحتلال، تماماً كما يربط نتنياهو بقاءه باستمرار الحرب.. الحرب هي السلام، إحدى الشعارات المتناقضة التي يروّجها الحزب الحاكم في رواية “1984” لجورج أورويل. عندما تكون السلطة في حالة حرب دائمة، يعاد توجيه وعي الشعب عن الفساد والفشل الداخلي، ليصبح العدو الخارجي هو المشكلة الكبرى، أليس هذا بالضبط ما فعله نتنياهو؟ أقنع الشعب اليهودي بأن هذه الحرب لا مفر منها، وأن البقاء كدولة يهودية يستلزم دبابات ميركافا وصواريخ مشتعلة وابادة بلا رحمة؟.
هل تستطيع أية سلطة أن تقنعك، إن اثنين زائد اثنين يساوي خمسة؟ لو أن الجميع صدق هذا فهل يجعلها ذلك حقيقية؟.
–الجواب هو نعم، إذا تمكنت السلطة من التحكم في الذاكرة، في الحقيقة، وفي الماضي… عندها تصبح الحقيقة ذاتها سائلة، قابلة للتغيير على وفق أوهام هذه السلطة.
في هذه الحرب، يتم محو الحقيقة بنفس الطريقة. قصف المستشفيات؟ -إنها قواعد عسكرية.. قصف المدارس؟ – إنها أنفاق إرهابية.. قتل الأطفال؟ -للأسف، سيكبرون ويصبحون جميعهم حماس.. هذه الديستوبيا التي رسمها أورويل هي نفس واقعنا الذي يتجدد كل يوم في الشرق الأوسط. وكل يوم يتم التلاعب بالحقيقة، وكل يوم يصبح القتل فعلا مشروعا، والجريمة دفاع عن النفس.
يطاردك دائما هذا السؤال: -هل بإمكان شعب ان يظل عالقا في رواية الى ما لا نهاية؟ تلك الرواية لجورج أورويل “1984” هل بإمكانها الاستمرار في حياتنا الى الابد؟.
يعيد العدو تشكيل الماضي، ويمحو الحقائق، ويزرع سرديات جديدة في ذاكرتنا الجماعية. هو يتلاعب بالتأريخ، كل ما يُكتب يعيد كتابته، وكل ما يُقال يعيد تفسيره، والإعلام الذي يعتبر وسيلة لنقل الأحداث، أصبح السلاح الذي يتوجه به الى الرأي العام بهدف إعادة صياغة الحقائق، وخدمة سياساته. وبالفعل في وسائل الاعلام التي تخدم الصهيونية يتم تمرير الاحتلال كدفاع عن النفس، ويعاد إنتاج الخبر على وفق مصالح القوى الكبرى المسيطرة.
لا شيء أصعب من رؤية نظرة الانكسار في عيون أبنائنا، لحظة يدركون فيها أن العالم الذي ربيناهم على الإيمان بعدالته، ليس عادلا لقضيتهم. أن ترى في نظراتهم تساؤلا مريرا: كيف لدولة تتغنى بالثورة الفرنسية، أن تُجرم المقاومة حين يكون المظلوم شعباً آخر؟ كيف يمكن ان تكون المقاومة بطولة وشجاعة في مكان، وتصبح جريمة وإرهاباً في مكان آخر؟.
انتقلت الخيبة إلى الجيل الجديد، وها أنا أراها تتجذر في وعيه كما تجذرت في وعي جيلنا من قبل. الفرق الوحيد أننا كبرنا على إدراك التناقضات، بينما هو لا يزال في بداية الطريق… ينظر إليَ ابني منتظراً إجابة لا أملكها، وكل ما أستطيع أن أخبره به هو أن الوطن لا ينكسر تحت الاحتلال.
أحيانا تجد نفسك محاصراً وسط حقيقة يجرى طمسها بآلة إعلامية ضخمة…. إلى متى يمكن خداع العالم وفرض السردية الأقوى، لا السردية الأصدق؟ الاجابة هي أن الحرب ليست فقط صراعا عسكريا. نعم، الحرب هي صراع على الرواية أيضا… ومن يكسب الرواية يكسب الحرب، من يسيطر على الرواية، يسيطر على الحقيقة.
السيناريوهات المطروحة متباينة، من خطة ترامب التي تتحدث عن تهجير الغزاويين وترحيلهم عبر ترانسفير سكاني.. الى نسخ معدلة من الخطة لا تقل غرابة عنها.. إلى المقترح المصري بإعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة، وصولا إلى الوثيقة العربية التي تقترح وقفا لإطلاق النار وتفكيك الذراع العسكري لحماس وإعادة إعمار القطاع.
لكن كل هذه الخطط، لن تنجح إذا لم تتم معالجة جذور الصراع. أجل، أي سيناريو يتجاهل الاحتلال ويقفز فوق الحقوق الفلسطينية، سيكون هدنة بمؤقت زمني تنفجر فور انتهاء صلاحيتها.
في إسرائيل لا يزال هناك وهم راسخ بإمكانية القضاء على حركة حماس، وهو أمر لم يتحقق حتى بعد أعنف الحروب وأكثرها تدميرا. على الرغم من كل الجهود العسكرية الإسرائيلية وبعد كل الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة، لم تختفِ حماس، بل ازدادت قوة.
تثبت إسرائيل مرة أخرى عجزها عن إمكانية قراءة هذا الصراع، وهي تواصل الرهان على القوة العسكرية كحل وحيد. هذا القصور الاستراتيجي في اغفال إسرائيل للعوامل السياسية والتأريخية للصراع هو الذي سيقودها نحو الهاوية. متى ستفهم إسرائيل، إن إنكار حقوق الشعب الفلسطيني والاعتماد على القمع، لن يجلب لها الأمن مهما بلغ تفوقها العسكري؟.
إسرائيل تريد غزة بلا حماس، بلا مقاومة، بلا صوت فلسطيني في مستقبلها. ويحلم سموتريش، كل يوم بغزة بلا أهلها لكن كيف؟ كأن يتبخروا مثلا؟ على كل حال هو يمضي نحو تحقيق أوهامه.
صحيح ان بعض الأصوات تروج لفكرة أنه لا بديل لـ “اليوم التالي” سوى تعزيز قوة السلطة الفلسطينية، وتوسيع نطاق منظمة التحرير الفلسطينية لتشمل جميع الفصائل، بما فيها حماس والجهاد الإسلامي، كخطوة نحو تحقيق تسوية سياسية تمنح الفلسطينيين دولة.
من وجهة نظر براغماتية، قد تكون السلطة الفلسطينية، بقيادة منظمة التحرير، الحل الوحيد القادر على توحيد الفصائل تحت مظلة واحدة في رؤية سياسية شاملة تعترف بحقوق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وتعمل على بناء دولة فلسطينية مستقلة.
لكن هذا الطرح يصطدم بعقبتين أساسيتين: الأولى، التحول في التفكير الإسرائيلي، والتحرر من الأوهام التي تعيق أي تقدم باتجاه الحل. وهذا يتطلب اعتراف إسرائيل بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، وهو أمر يبدو بعيد المنال في ظل المشهد السياسي الحالي في إسرائيل.
أما العقبة الثانية، فتكمن في السلطة الفلسطينية نفسها.. كيف يمكن الحديث عن حل سياسي يعتمد على سلطة فلسطينية موحدة، بينما هذه السلطة نفسها تعاني ضعفا داخليا وتراجعا في شعبيتها؟ هل هناك سلطة فلسطينية فعلا؟ أين هي؟ محمود عباس بالكاد يحكم المقاطعة في رام الله.. إذا، قبل الحديث عن الحلول، عليكم إيجاد رئيس أولاً.. هنا تكمن المعضلة.