تقويض ترامب لأمريكا من الداخل

د. حامد أبو العز..
في التحوّلات الكبرى التي يعبرها العالم بين زمنٍ وآخر، لا تكون السياسة مجرد حقل للقرارات ولا ميداناً للمواجهات، بل مرآة تُظهر اختلالاً أعمق في بنية النظام الدولي نفسه. فهناك لحظات لا تتبدّل فيها المواقع، بل تتبدّل قواعد اللعب. وعبر هذه العدسة تحديدا يمكن قراءة ظاهرة دونالد ترامب ليس باعتبارها فترة رئاسية مثيرة للجدل، بل كعلامة على منعطف يتجاوز الرجل وإدارته إلى ما هو أبعد والمقصود هنا هو اهتزاز النموذج الأمريكي الذي شكّل مركز الثقل للعالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لم يكن وصول ترامب إلى البيت الأبيض حدثاً سياسياً منفصلاً عن مسار واسع سبق لحركة التأريخ أن مهّدت له شروطه. فالتراجع التدريجي في شرعية التدخلات الخارجية، والصدوع الداخلية في الهوية الوطنية الأمريكية، وتآكل الإيمان بدور الولايات المتحدة كقائد للنظام الدولي، كلها شكّلت التربة التي نما فيها مشروع سياسي لا يؤمن بالتقاليد، بل يراهُن على كسرها. ومن هنا جاءت خطواته المتتابعة في السياسة الخارجية وكأنها رغبة في التحرر من إرثٍ لم يعد يخدم الداخل الأمريكي بقدر ما يستنزفه. فانسحابه من الاتفاقيات الدولية، وتصادمه مع الحلفاء، وتصعيده مع الخصوم دون خطة ثابتة، كلها لم تكن أخطاءً منفصلة، بل خيوط رؤية جديدة تتعامل مع القوة بوصفها ملكية خاصة لا عقداً مؤسسياً.
في الخلفية الكاشفة لهذه اللحظة، ظهر البيان الذي عبّر فيه إعلاميون وناشطون عرب من مختلف البلدان العربية، عن قلقهم من المسار الأمريكي الجديد، معتبرين أن السياسة الخارجية في عهد ترامب لا تشبه الانعزال ولا التوسع ولا حتى النسخة الكلاسيكية من القومية الأمريكية، بل تميل نحو شكل من السلطة الشخصية التي تتجاوز منطق المؤسسة إلى منطق الإرادة. والحقّ أن هذا الوصف لا يقف عند حدود النقد السياسي، بل يذكّرنا بأن الحكم حين يتحول من مؤسسة إلى ذات، يتغير موقع الدولة في العالم من لاعب إلى عنصر اضطراب.
ما فعله هذا الرجل لم يكن تهديما خارج السقف الأمريكي، بل إزالة للطلاء الذي كان يغطي الحديد. كشف هشاشة فكرة الهيمنة حين تُختزل في شعار تجاري بدل مشروع حضاري. فالمعنى التقليدي للقوة الأمريكية كان يقوم على إدارة النظام الدولي لا استفزازه، على بناء التحالفات ثم استثمارها، على صناعة الاعتمادية العالمية حول الدولار والتجارة والمؤسسات لا حول النزعة الشخصية. لكن ترامب قلب الطاولة. لم يعد العالم شراكة بل سوقا، ولم تعد القيادة مسؤولية بل صفقة.
هذا التحول لا يُفهم على مستوى التكتيك، بل على مستوى فلسفة الحكم. فالولايات المتحدة طوال سبعين عاما كانت قوة مركزية تقوم على مبدأ “استدامة النظام الذي تخدمه وتستفيد منه”. أما في المرحلة الترامبية، فقد ظهر منطق جديد يستبدل الاستدامة بالربح المباشر، والزمن الطويل بالمكسب اللحظي، والمؤسسة بالفرد. وبذلك انتقلت السياسة الخارجية من عقل الدولة إلى غريزة القوة، من الإستراتيجية إلى رد الفعل.
من هنا، لا يكون السؤال: ماذا فعل ترامب؟ بل، ما الذي سمح لترامب أن يفعل ما فعل؟. وما معنى أن دولة بنت النظام الدولي أصبحت الآن تشكل خطرا عليه؟.
إذا استمر هذا النمط من الحكم، سيجد العالم نفسه في بنية جديدة لا تُشبه الحرب الباردة ولا القطبية الأحادية ولا حتى التعددية الدولية. نحن لا نتجه إلى نظام بديل جاهز، بل إلى مرحلة التذبذب الاستراتيجي. وهذا لا يعني وجود لاعبين أكثر، بل قواعد أقل. دولة تنسحب من المعاهدات، قوة عظمى تفقد مركزيتها، عالم يتوزع على مصالح متحركة، وتحالفات تذوب بسرعة السوق المالية لا بصلابة الجغرافيا. وبدل محور عالمي واحد، قد تتولد محاور هشة، تتصادم ولا تستقر، تتنافس ولا تنتج نظاماً.
قد يكون هذا أخطر تحول في القرن الحادي والعشرين وهو انهيار النظام لا لصالح نظام آخر، بل لصالح غياب النظام. لا فوضى الحرب فقط، بل فوضى المعنى.
حين يخلو العالم من قوى أخلاقية، يصبح الصراع هو اللغة البديلة. تتكاثر القوى الإقليمية بلا مظلة، وتتعاظم الفواعل من غير الدول، لأنها لا تحتاج اعترافا يعجز العالم عن منحه. وتصبح السياسة الخارجية، سلسلة اشتباكات متفرقة وليست خريطة نفوذ. الشرق الأوسط هنا ليس استثناءً بل نموذجاً مبكرا، ساحات حرب بلا نهاية، تسويات بلا جغرافيا واضحة، تحالفات تتشكل وفق اللحظة لا المشروع.
إن العالم يُعاد هندسته الآن لكن بمهندس يرى في المصالح الإسرائيلية مصالح لنفسه. وما ترامب إلا تجلٍّ صاخب لهذه الحقيقة: وهي أن مصالح الوكيل الصغير مقدمة على مصالح الموكل. وهذا أخطر من تراجع القوة أو صعود منافس. لأن الخصم قد يُهزم. أما فقدان المعنى فلا يُهزم، بل يُغيّر شكل التأريخ.



