اخر الأخباراوراق المراقب

التنوير الديني وإِعمال العقل

زكي الميلاد..

عندما تحدث لنا القرآن الكريم في آيات عديدة مكية ومدنية، عن مشكلة “ما وجدنا عليه آباءنا”، التي اعترضت طريق الأنبياء والرسل في تبليغ رسالاتهم السماوية إلى المجتمعات التي بُعثوا إليها، أراد من الحديث عن هذه المشكلة، تصوير أن الرسالات السماوية إنما جاءت لتحرير العقول، وتحريض الناس على إعمال العقل، والتخلص من ذهنية القصور في الفهم، ومن منهجية التقليد والاتِّباع الساكن والجامد، وحتى لا يقول الناس بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو حسبُنا ما وجدنا عليه آباءنا.

وقد صور لنا القرآن حجم هذه المشكلة وخطورتها عندما ظل يُذكِّر بها، ويلفت النظر إليها في مرات عديدة، وفي مناسبات مختلفة، وبالإشارة إلى أقوام وجماعات متعددة، لكي يدعونا إلى التأمل والتدبر في هذه المشكلة، التي يتوقف الإنسان فيها عن إعمال عقله، ويرتد إلى الوراء مبررا عجزه وخموله، ومعطلا لعقله وفكره.

قال تعالى (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَ لو كان أباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) فهذه الآية تصور أن اتِّباع الآباء في مثل هذا الموقف لم يكن على أساس عقلي سليم، فالبعض يتبع الآباء حتى لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا، ولا يهتدون. (لا يعقلون شيئا) ناظرة إلى جانب النظر، (ولا يهتدون) ناظرة إلى جانب العمل، فالذي لا يتعقل لا يهتدي.

وقد وجد الشيخ محمد عبده ضرورة أن يتوقف ناظرا إلى قوله تعالى (لا يعقلون شيئا) حتى لا يشكل هذا العموم على بعض الأفهام، وبين المعنى في تفسير المنار، على ثلاثة أوجه:

الأول: أن معناه لا يستعملون عقولهم في شيء مما يجب العلم به، بل يكتفون فيه كله بالتسليم من غير نظر ولا بحث.

الثاني: أنه جارٍ على طريقة البُلغاء في المبالغة، بجعل الغالب أمرا كليا عاما. إذ يقولون عن الضال في عامة شؤونه إنه لا يعقل شيئا ولا يهتدي إلى الصواب، ويقولون عن البليد إنه لا يفهم شيئا، وهذا لا ينافي أن يعقل الأول بعض الأشياء، ويفهم الثاني بعض المسائل.

الثالث: أنه ليس الغرض من العبارة نفي العقل عن آبائهم بالفعل، وإنما المراد منها أن يتبعون آباءهم لذواتهم، كيفما كان حالهم حتى لو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.

لهذا فأن القرآن الكريم جاء ليقول للناس أنكم لكم عقول، ولا ينبغي اتِّباع الآخرين بطريقة تجمد العقل، حتى لو كان هؤلاء آباؤكم، وهم اقرب الناس إليكم.

وهذا من منابع التنوير الديني في القرآن الكريم، الذي يدفع الإنسان لأن يتحرر من الركون إلى الآباء لمجرد أنهم يحملون هذه الصفة، فهذا لا يبرر له أن يعطل عقله، ويجمد فكره مقابل معرفة الحق واتباعه. وإنما عليه أن يستشعر الثقة والشجاعة في إعمال عقله، وينزع عن نفسه حالة القداسة التي تُعمي العقل، وحالة التقليد التي تجمد الفكر.

منبع التنوير الديني

حينما وصف الله سبحانه وتعالى ذاته بالنور في قوله تعالى (الله نور السماوات والأرض) أراد أن يُخبر بأنه مصدر ومنبع النور للإنسان في هذا العالم، وليس هناك مصدر ومنبع آخر يمكن أن يلجأ إليه الإنسان، بحثاً عن النور الذي يخرجه من الظلمات، وهذا يعني أن ما دون الله هو الظلمات.

وقد توقف المفسرون كثيراً أمام هذه الآية، قديماً وحديثاً، وكذا الفلاسفة والحكماء، بحثاً وتأملاً في الحقل الدلالي لهذه الآية، وحكمها ومقاصدها، وتذوقاً لجمالية هذه الآية، وجميع الآيات جميلة، وهذا الوصف البديع. فليس هناك ما هو أبلغ من أن يصف الله تعالى ذاته بأنه نور السماوات والأرض، وليس باستطاعة أحد أن يدعي لنفسه مثل هذا الوصف.

والمعنى العام لهذه الآية أن الله ظاهر في ذاته كظهور النور، مظهر لغيره بما يشمل كائنات السماوات وكائنات الأرض، لأن بالنور تنكشف وتظهر الأشياء للعيان. والله تعالى هو أظهر شيء في هذا الكون، لأنه نور السماوات والأرض، وليس هناك ما هو أظهر منه، وكل شيء في هذا الكون، في السماوات والأرض يدل ويرشد إلى الله تعالى، لأن نوره يظهر على كل شيء.

ويرى السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره (الميزان) أن تعريف النور بالظاهر بذاته المُظهر لغيره، هو أول ما وضع عليه لفظ النور، ثم عمم كل ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة، ثم عمم لغير المحسوس، فعدَّ العقل نوراً تظهر به المعقولات.

وبعد أن وصف الله ذاته بالنور، شبَّهَ هذا النور بمثال بديع في تتمة الآية السالفة الذكر، بقوله تعالى (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى