من بيان الرباعية إلى الاتحاد الأوروبي.. مأزق الوصاية والاستعمار في السودان

بقلم: عباس محمد صالح..
منذ اندلاع الصراع في السودان في 15 نيسان، اتسمت استجابات المجتمعين الدولي والإقليمي بعدم الاتساق والانحياز، بل والتواطؤ أحيانًا، فبدل أن تكون التدخلات الخارجية، جزءًا من مسار الحل كما هو مفترض، أصبحت عاملًا أساسيًا في تعقيد الأزمة وإطالة أمدها، كما أن تضارب المبادرات الإقليمية والدولية وتجاهل جذور الصراع المباشرة وغير المباشرة، ولا سيما جذور التمرد الحالي، أدّيا إلى فشل كل المساعي الدبلوماسية حتى الآن.
إن استمرار التدخلات الخارجية السالبة، وتغاضي المجتمع الدولي عنها، إلى جانب طرح وساطات تفتقر إلى الحياد وتسعى لخدمة أجندات الأطراف الخارجية على حساب أصحاب المصلحة الحقيقيين داخل السودان، لن يقود إلى سلام حقيقي، حتى لو كانت نوايا بعض الوسطاء حسنة، بل على العكس، فإن مثل هذه المقاربات تُفاقم تعقيدات الأزمة وتُعيد إنتاجها في صور جديدة.
بيان الرباعية.. شرعية غائبة ومصالح متقاطعة
أثار بيان ما تُسمّى بـ”المجموعة الرباعية” (الولايات المتحدة، مصر، السعودية، والإمارات)، الصادر في 12 أيلول، جدلًا واسعًا داخل السودان، فالبيان الذي جاء بعنوان “استعادة السلام والأمن في السودان” تضمّن، مواقف مثيرة للجدل، وجاء ملحقه بيان مجلس الاتحاد الأوروبي في 20 تشرين الأول الجاري، ليزيد المشهد تعقيدًا، ويؤكد تصاعد التدخلات الخارجية في الشأن السوداني.
تكمن أزمة المجموعة الرباعية في غياب الشرعية عنها؛ فهي لم تنبثق عن تفويض دولي، بل جاءت نتيجة تنافس محموم بين أصحاب المبادرات، في محاولة من بعض الأطراف لفرض أجنداتها الخاصة وإقصاء مبادرات أخرى لا تخدم مصالحها، كما أن البيان تجاهل القوى الداخلية الفاعلة، وركّز على أطراف مرتبطة بالخارج أو متحالفة مع التمرد، في ممارسة وصاية سياسية تشبه سلوك القوى الاستعمارية القديمة.
منطق الوصاية والانتقائية
تتبنى بعض القوى الخارجية، مقاربة تقوم على فرض رؤيتها لما تسميه “الانتقال السياسي المدني الشامل”، معتبرة، أن بعض القوى فقط تستحق صفة “المدنية” وحق المشاركة في التسوية، غير أن هذا الطرح يتجاهل الواقع المنقسم فعليًا بين معسكرين في البلاد: أحدهما مع الدولة والقوات المسلحة، والآخر مع التمرد والجماعات المسلحة، كما يتناسى أن أولوية السودان اليوم ليست الانتقال السياسي، بل استعادة الأمن والاستقرار وبقاء كيان الدولة نفسها.
ازدواجية المواقف وتضارب الرؤى
البيان المشترك للرؤساء المشاركين في الاجتماع الوزاري لتنسيق جهود التهدئة في السودان، بنيويورك، والصادر بتأريخ 24 تشرين الاول، والذي كان قد ضم ممثلين للاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة إلى ممثلين ووزراء خارجية عشرين دولة ومنظمة إقليمية، جاء أكثر توازنًا نسبيًا، مؤكدًا، أن “الشعب السوداني وحده يجب أن يقرر مستقبله من خلال عملية انتقالية بقيادة وملكية سودانية” من دون وصاية أو “فيتو” مشاركة أي مجموعة وطنية محددة، لكن هذا التباين بين البيانات بهذا الخصوص يعكس بوضوح، غياب رؤية موحدة لدى الأطراف الخارجية، وتضارب مصالحها أكثر من “توافقها” المزعوم.
إضعاف السردية الوطنية
لم تكتفِ البيانات الخارجية الأخيرة بممارسة الوصاية على الإرادة الوطنية فحسب، بل سعت أيضًا إلى إضعاف السردية الوطنية حول طبيعة الصراع، فبينما يرى السودانيون، أن ما يجري هو تمرد وعدوان خارجي على الدولة، تصر بعض القوى الخارجية على تصويره كصراع على السلطة أو تنافس بين “جنرالين”، أو صراع بين “القوى الديمقراطية” و”غير الديمقراطية” في تبسيط مخل وتجاهل لطبيعة التمرد ومخاطره على كيان الدولة ذاتها.
تنديد غامض بالتدخلات
تُدين البيانات الدولية “كل أشكال التدخل الخارجي” من دون تسمية الجهات المتورطة فعليًا، رغم وضوح الدور الخارجي في تأجيج الحرب وتمويل أحد أطرافها.
هذا التجهيل يُفقد تلك البيانات المصداقية ويضعف ثقة السودانيين في دور الوسطاء الخارجيين بشكل عام، كما حدث مع “منبر جدة” منذ أيار 2033 والذي انتهى من دون نتائج ملموسة رغم الجهود السعودية والأمريكية.
صراع الشرعية
منذ بداية التمرد، دار صراع موازٍ حول الشرعية بين الأطراف الإقليمية والدولية. فقد سعت بعض القوى في الاتحاد الأفريقي و”إيغاد” إلى نزع الشرعية عن القوات المسلحة ومجلس السيادة، في محاولة لإعادة تشكيل المشهد السياسي على وفق حسابات خاصة.
في الإطار نفسه، يكشف نص بيان الرباعية الذي دعا إلى “عملية انتقالية لا تسيطر عليها أية جهة متحاربة” عن رغبة مبطنة في إزاحة القوات المسلحة وإحلال مجموعات سياسية مدعومة من الخارج مكانها وإضفاء شرعية مصطنعة عليها من الخارج والإمعان في تجاهل الإرادة الوطنية في تشكيل الشرعية والتمثيل، ولا سيما في القضايا الوطنية المصيرية.
هدن شكلية وتمكين للمسلحين
رغم الدعوات المتكررة إلى وقف إطلاق النار، فإن التجربة أثبتت أن كل هدنة كانت تمنح المسلحين، وقتًا لإعادة التمركز وشنّ هجمات جديدة، ما أفقد الثقة في هذه المبادرات.
كما أن الدعوة الأخيرة إلى هدنة لثلاثة أشهر، تعقبها عملية انتقالية خلال تسعة أشهر، تبدو محاولة لعرقلة تقدم الجيش واستنزافه سياسيًا وممارسة ضغوط على القيادة الحالية لحملها على الخضوع لهذه المخططات.
أخفقت القوى الدولية في إدراك حقيقة الصراع في السودان، وفي لجم الأطراف الخارجية الداعمة للجماعات المسلحة أو إجبارها على رفع حصارها عن المدن والاستقرار، رغم التحديات الكبيرة في سبيل التعافي وتطبيع الحياة. وبهذا، يتحول خطاب “السلام والديمقراطية” و”الوساطة” إلى غطاء جديد لممارسة الوصاية وإعادة إنتاج الاستعمار بأدوات سياسية ودبلوماسية ناعمة.



