اراء

الجيش الذي لا يُقهر.. اثنان وعشرون شهراً من العجز

بقلم/ زياد فرحان المجالي..

في الحرب الطويلة التي استنزفت غزة وامتحنت إسرائيل، لم تكن المدافع وحدها التي كشفت الحقيقة، بل المرايا التي حملتها الصحف الإسرائيلية نفسها، حين تجرأت على الاعتراف بأن جيشها لم يعد ذاك الكيان الحديدي الذي لا يُقهر، بل جسد مرهق يختبئ خلف خطاب القوة بينما يتآكل من الداخل. فبعد اثنين وعشرين شهرًا من القتال، تهاوت الأسطورة التي صاغتها الدعاية الصهيونية على مدى عقود.

 ذلك الجيش الذي بنى صورته على النصر السريع والضربات الخاطفة وجد نفسه في حرب استنزافٍ لا تُشبه شيئًا من تأريخه السابق، جيشٌ يملك السماء والتكنولوجيا، لكنه فقد المعنى، يخوض حربًا لا يفهمها، ضد شعب لا يستسلم، ولعلّ أكثر ما يلفت في المشهد هو أن الأزمة لم تعد تكتيكية بل وجودية؛ أزمة جيشٍ فقد إيمانه بنفسه.

فالمؤسسة العسكرية التي كانت تُلقَّب بـ«مصهر الأمة» تحولت إلى مرآة الانقسام، لا تصهر المجتمع بل تعكس هشاشته. أصوات الجنود العائدين من غزة تتحدث عن ضياع الهدف، عن قادةٍ يترددون وجبهاتٍ تُعاد احتلالها ثم تُترك، وعن شعورٍ عام بأن الحرب لم تعد من أجل أمن إسرائيل بل من أجل بقاء نتنياهو السياسي. فالحرب التي بدأت بشعار «تحطيم حماس» انتهت بتحطيم الثقة داخل الجيش ذاته.

في التقارير الميدانية تسكن التفاصيل الصغيرة التي تفضح العطب الكبير: جنود يشكون من ضعف التدريب، ضباط يتهربون من المسؤولية، ووحداتٌ نخبوية تُصاب بالإنهاك النفسي قبل المادي. في كل ذلك صورة لجيشٍ يحارب بلا يقين. حتى فكرة الردع التي تغنّى بها قادة إسرائيل سقطت عمليًا حين فشلت في كسر إرادة مقاتلين يواجهونها بما تبقى من البنادق والإيمان. القتال لم يعد معركة بين جيشٍ نظامي وحركة مقاومة، بل بين عقيدتين؛ واحدة تقتل من أجل البقاء وأخرى تقاتل من أجل المعنى. ومن هنا تتجلى المفارقة الكبرى: جيش إسرائيل، رغم تفوقه في العدد والعتاد، انهزم في الفكرة قبل الميدان، لأن الحروب لا تُربح بالتكنولوجيا فقط بل بالثقة بعدالة الهدف، وهي الثقة التي لم يعد الإسرائيليون يملكونها. أما غزة، التي وُصفت بأنها «منطقة ميتة»، فقد تحولت إلى امتحانٍ للروح لا للمساحة.

كل حيٍّ دُمّر صار شاهدًا على فشل القوة الغاشمة في فرض الاستسلام، وكل جدارٍ كتب عليه الأطفال أسماء الشهداء صار بيانًا مضادًا لبيانات المتحدث العسكري الإسرائيلي. ومع اتساع الهوة بين القيادة والجنود، برزت أزمة القيادة العسكرية والسياسية كأحد أسباب الإخفاق المستمر؛ فنتنياهو الذي فرض على الجيش خطة الحرب هو نفسه الذي أفرغها من معناها السياسي، وحوّلها إلى مسرحٍ للدعاية الانتخابية. كان يطالب بالنصر بينما يُقيد قادته بشروط الهدنة وبضغوط البيت الأبيض، وهكذا وجد الجيش نفسه يقاتل في معركة بلا خريطة، يهاجم اليوم موقعًا ليعود إليه غدًا، لم يعرف كيف يُعرّف النصر، ولم يعد يعرف كيف يعلن الهزيمة.

الأزمة الأخطر لم تكن في الميدان، بل في الوعي الإسرائيلي الذي بدأ يفقد إيمانه بجيشه. فاستطلاعات الرأي الأخيرة كشفت أن أكثر من نصف الإسرائيليين لم يعودوا يثقون بقيادة الجيش، وأن ثلثيهم يعتقدون أن الحرب على غزة لم تحقق أهدافها. هذه الأرقام ليست إحصاءً سياسيًا بل إعلان موتٍ رمزي لأسطورة «الجيش الذي لا يُقهر». ومعها بدأ تفكك الرابط النفسي بين المواطن والمؤسسة العسكرية، الرابط الذي كان أساس مشروع الدولة منذ قيامها. اليوم يتحدث الإسرائيليون عن «جيشٍ منهك، قيادة مشوشة، ومجتمعٍ يعيش على حافة الانقسام». وفي المقابل، فإن ما تخسره إسرائيل في المعركة الميدانية تكسبه المقاومة في المعنويات.

غزة التي لم تمتلك الطائرات ولا الأقمار الصناعية امتلكت ما هو أعمق: القدرة على الصمود، وإرادة البقاء، ومعرفة كيف تجعل من الوجع رواية وطنية. فحين تُقصف البيوت وتُفتح الملاجئ، تُولد في المقابل ذاكرة جماعية تُعيد تعريف البطولة والكرامة، وتُحوّل المعاناة إلى وقودٍ للمقاومة. هذه المعادلة هي التي أربكت إسرائيل، لأن النصر عندها يعني التدمير، بينما النصر في الوعي الفلسطيني يعني البقاء.

لذلك لم تستطع إسرائيل أن تفهم كيف يمكن لغزة أن تنهض بعد كل جولة، وكيف يستمر المقاتلون رغم الجوع والدمار، وكيف تظل النساء تحمي الأطفال في الأنفاق بصلابة تفوق كل الدروع. هذا البعد الإنساني هو ما جعل الحرب تتحول إلى امتحانٍ أخلاقي للعالم، فكل قذيفة إسرائيلية كانت تسقط لم تعد تقتل فلسطينيًا فقط، بل تقتل ما تبقّى من صورة إسرائيل كدولة “ديمقراطية.

 لقد خسرت إسرائيل، معركتها في الإعلام كما خسرتها في الضمير الإنساني، بينما كسبت غزة، بصورتها الحقيقية لا الدعائية، تعاطف الملايين حول العالم. ما بعد هذه الحرب لن يشبه ما قبلها، لأن إسرائيل ستجد نفسها أمام سؤالٍ لم يعد بالإمكان تجاهله: كيف يُعاد بناء جيشٍ فقد الثقة بنفسه؟ فإعادة الإعمار هنا ليست للبنية التحتية بل للعقيدة العسكرية، وللصورة الذهنية التي تحطمت في وعي الإسرائيليين والعرب على السواء. وحتى لو نجحت تل أبيب في ترميم جدرانها العسكرية، فإنها لن تستطيع ترميم ما انهار داخلها.

لأن الجيوش تُهزم حين تفقد إيمانها بالغاية، ولأن من يقاتل من أجل فكرة لا يُهزم أمام من يقاتل من أجل الخوف، وهكذا تنتهي الأسطورة لا بصوت الانفجار، بل بصوت الحقيقة حين تُقال من داخل العدو نفسه، لتؤكد أن غزة لم تنتصر فقط بالسلاح، بل بالمعنى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى