الجمر تحت الرماد.. وعد يتجدد

بقلم/ د.هاني الضمور..
ما زالت فلسطين، منذ عقود طويلة، حاضرة في ضمير الأمة كجرح مفتوح لا يندمل، وكقضية تستعصي على الطمس والنسيان. وبرغم محاولات عديدة لإطفاء جذوة المقاومة وكسر روح الصمود، فإن الجمر يظل مختبئًا تحت الرماد، متوهجًا وإن بدا خامدًا، يعلن أن الجولة لم تنتهِ وأن الحق لا يموت بالتقادم. إن الوعد الإلهي بأن الأرض يرثها عباده الصالحون ليس مجرد نص ديني يُتلى، بل هو حقيقة يقرأها المؤمن في مسار التأريخ ويستيقنها من حركة الأمم والشعوب، ويجد في كل محطة من محطات النضال الفلسطيني شاهدًا جديدًا على أن هذه الأرض لا تنكسر، وأن القدس ستظل في قلب الوجدان حتى يتحقق الوعد بالتحرير.
القرآن الكريم حين يوجه خطابه قائلاً: “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار”، يضع معيارًا صارمًا أمام الأمة، معيارًا يقوم على رفض الميل أو التماهي مع الظالمين مهما كانت المبررات أو الذرائع. هذا التحذير ليس مسألة فردية تخص العقيدة فقط، بل هو قاعدة في إدارة الصراع مع الباطل، لأنه ما من أمة مالت إلى من ظلمها إلا ودفعت الثمن باهظًا من كرامتها وحريتها وسيادتها. والركون هنا لا يقتصر على التحالف السياسي أو العسكري، بل يشمل حتى الميل القلبي والرضا الضمني والقبول بالمساومات التي تفرط بالحق وتضعف موقف الصامدين.
لقد مرت على فلسطين موجات من الاستيطان والقهر والتهجير والقتل، لكنها في كل مرة كانت تنهض من جديد لتقول إن الاحتلال ليس قدَرًا دائمًا. وإذا كان البعض يرى في تراكم النكبات دليلًا على الهزيمة، فإن المتأمل في التأريخ يرى العكس تمامًا. فالشعوب التي تعرّضت لأعتى صور الاستعمار نهضت يومًا ما واستعادت أوطانها، لا لأن موازين القوى انقلبت فجأة لصالحها، بل لأن جذوة المقاومة لم تنطفئ، ولأنها لم تركن للظالمين، بل ظلت مؤمنة أن الاحتلال زائل مهما طال الزمن.
إن الحديث عن أن الجولة لم تنتهِ ليس مجرد شعارات تُرفع في ساحات التظاهر، بل هو حقيقة ماثلة في وعي الفلسطيني الذي يورث أبناءه الحلم بالعودة، وفي ذاكرة الأمة التي تستحضر المسجد الأقصى في صلواتها وخطبها وأدبها وإعلامها. فالقضية ليست قضية أرض مسلوبة فقط، بل قضية هوية وعقيدة وانتماء، وهي في الوقت ذاته امتحان أخلاقي للإنسانية جمعاء: كيف يمكن للعالم أن يظل صامتًا أمام أطول احتلال عرفه العصر الحديث؟ وكيف يمكن للضمير البشري أن يبرر الركون إلى المعتدي بحجة السلام أو الاستقرار؟
القوة الحقيقية في هذا الصراع ليست فقط في عدد البنادق ولا في قوة التحالفات، بل في الصمود الذي يزرع الأمل في قلب كل إنسان حر. الكلمة مقاومة، والتربية مقاومة، والوعي مقاومة، وكل فعل صغير يذكّر بأن هناك حقًا لم يسقط، هو جزء من معركة كبرى عنوانها البقاء على العهد حتى يتحقق الوعد. من هنا نفهم معنى أن الجمر ما زال تحت الرماد، لأنه ليس من السهل أن تُطفأ قضية تحيا في الضمائر وتتغذى من وعد إلهي يربط الأرض بالسماء.
وليس خافيًا أن الاحتلال مهما حاول أن يفرض روايته، فإنه يواجه جدارًا من الوعي يكبر يومًا بعد يوم. فالعالم بات يشهد تحولات في الرأي العام، والأصوات الحرة التي كانت معزولة أصبحت أكثر حضورًا، والشباب الذين لم يعيشوا النكبة صاروا أكثر تمسكًا بها من أجدادهم، وهذا وحده كافٍ لإثبات أن التأريخ لا يسير دائمًا كما يشتهي القوي، بل كما يفرضه صبر الشعوب وإيمانها بعدالة قضيتها.
فلسطين ستتحرر. هذا ليس شعارًا أجوف ولا أماني عاطفية، بل وعد من الله الذي قال ما معناه أن الأرض يرثها عباده الصالحون. وبين نصوص الوحي التي تحذر من الركون إلى الظالمين، والواقع الذي يشهد على صمود الفلسطينيين جيلاً بعد جيل، تبقى الرسالة واضحة: أن الحق باقٍ لا يموت، وأن النصر آتٍ لا محالة. الجمر تحت الرماد ليس سوى إيذانٍ بفجر قريب، والقدس ستظل قبلة الأحرار حتى تعود حرة كما وعد الله.



