اراء

أوروبا وإيران والضغط على الزناد.. هل هو صراع حضارات؟

بقلم: محمد جرادات..

يعكس العِداء الأوروبي لإيران، رؤية الغرب النابعة من منظومة قيمه الحضارية المادية، أكثر مما يعكس تحالفاً سياسياً مع أمريكا وربيبتها “إسرائيل”، أو خشية أوروبية من مخاطر المشروع الإيراني النووي العسكري، يظهر ذلك في مستوى الإجماع الأوروبي ووضوح تنكره للاتفاق النووي مع إيران، وهو الاتفاق الذي وقعته أوروبا وأمريكا مع إيران وانسحبت منه أمريكا عند انتخاب ترامب في فترته الأولى، في وقت عجزت فيه أوروبا عن الوفاء بأدنى التزاماتها تجاه هذا الاتفاق، عندما خضعت الشركات الأوروبية للقرصنة الأمريكية وتخلفت الدول الأوروبية عن تعويض هذا الخضوع.

وكانت أوروبا، وتحديداً بريطانيا وفرنسا وألمانيا “دول الترويكا” قد ألغت حزمة من العقوبات المفروضة على إيران عقب توقيع الاتفاق النووي عام 2015، والتي أطلق عليها “آلية الزناد” أو “السناب باك” وتركز هذه العقوبات على شركات ومنظمات وأفراد يُسهمون بشكل مباشر أو غير مباشر في برامج إيران النووية أو تطوير صواريخها الباليستية، بما يشمل تقديم المعدات والخبرات أو التمويل، وتشمل حظر بيع أو نقل الأسلحة التقليدية إلى إيران، ومنع الواردات والصادرات أو نقل المكونات أو التكنولوجيا المرتبطة بالبرامج النووية والباليستية، وتجميد أصول كيانات وأفراد مرتبطين بهذه البرامج في الخارج، ومنع الأشخاص المشاركين في الأنشطة النووية المحظورة من السفر إلى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وتقييد الوصول إلى المنشآت المصرفية والمالية التي قد تدعم هذه البرامج.

وقد أعادت الترويكا الأوروبية، آلية الزناد ضد إيران هذا الأسبوع، ما يدفع لإعادة تفعيل قرارات الأمم المتحدة السابقة بحق إيران، لكن تنفيذها عملياً يتطلب تحديث قوانين الدول الأعضاء، لتمكين تطبيق العقوبات، ويتوقف الأمر على الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لاتخاذ الإجراءات التشريعية اللازمة، رغم عدم كشف أي منهما عن تفاصيل عملية التنفيذ حتى الآن، ورغم أن قرارات مجلس الأمن الدولي ملزمة، فإن الالتزام بها يختلف بين الدول، وتعد الصين وروسيا من الدول التي تعتبر تفعيل “آلية الزناد” غير قانوني  لهذا من المستبعد خضوعهما لها.

يثير الموقف الأوروبي المعادي لإيران، تساؤلات جوهرية حول أسس هذا العداء وطبيعته، خاصة أن إيران بذلت وتبذل جهوداً مضنية لاستقرار العلاقات مع أوروبا، ولا تستشعر إيران أن لها مشكلة خاصة مع الدول الأوروبية بما فيها بريطانيا، رغم ماضيها السيئ مع إيران، إلا أن هذه الدول تصرّ على معاداة إيران، فما هي حقيقة أسس العداء المتولد في أوروبا ضد إيران؟.

مرّ على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي سبع سنوات عجاف، وهو انسحاب مثّل بلطجية السياسة الأمريكية، وقد أعلنت أوروبا عن أسفها لهذا الانسحاب، ولكنها عجزت عن تصحيح الموقف الأمريكي بهذا الخصوص حتى في عهد بايدن، في وقت نكصت الشركات الأوروبية عن عقودها مع إيران، خشية أن تطالها العقوبات الأمريكية، مثلاً شركة توتال الفرنسية تراجعت عن اتفاقها النفطي مع إيران، ما تسبب بخسائر هائلة للطرفين، ما يشير إلى أن أمريكا تسببت بأزمة لأوروبا وليس فقط لإيران، فلماذا تحولت أوروبا من لوم أمريكا إلى معاقبة إيران؟ ولماذا في هذا التوقيت؟.

عجزت أوروبا عن التأثير في السياسة الأمريكية، فأدارت قرص الرحى نحو إيران، في وقت أخذ التباين في السياسة الأوروبية مع الأمريكية يتسع بشأن الحرب في أوكرانيا وغزة، وكان يفترض بذلك أن يقلص التباين بين أوروبا وإيران، ولكن ما حصل هو العكس تماماً، فهل يكمن السبب في الحرب التي وقعت بين الكيان الإسرائيلي وإيران في حزيران الماضي؟.

شنت “إسرائيل” عدوانها على إيران فدافعت إيران عن نفسها، وكان يفترض بأوروبا أن تقف مع القانون الدولي والقوانين الأممية، أو تختار الحياد بين الطرفين، ولكن الحاصل أن أوروبا وقفت مع “إسرائيل” وشاركت في التصدي للصواريخ الإيرانية، وليس ثمة تفسير قانوني أو سياسي لهذا الموقف، في وقت تواصل فيه “إسرائيل” المذبحة ضد المدنيين في غزة، وتستهدف المباني العامة في إيران وليس فقط الأهداف الأمنية أو العسكرية، فيما ظهر الحرص الإيراني على استهداف المراكز الأمنية والعسكرية الإسرائيلية طوال المواجهة بين الطرفين.

يرفض العقل الغربي أن ينظر للشرق، نظرة إنسانية محضة، لذا هو يتعامل مع الأوكراني بعينيه الزرقاوين ككائن يستحق الاحترام وأن تشن لأجله الحرب على روسيا، باعتبارها دولة شرقية، وإن غاصت جغرافيتها في أطراف أوروبا، ولعل الهزيع الذي يجتاح أوروبا حالياً تجاه المذبحة في غزة وتعاطف شعوب أوروبا مع مظلوميتها، بات يؤرق العقل الغربي الساكن في النخب الفكرية والسياسية الحاكمة في أوروبا، وقد استشعرت خطر تفلت المزاج النفسي لهذه الشعوب من قيدها الحضاري المتعجرف، وهو ما تسبب بتصاعد نزعة اليمين الأوروبي، والانقسام الحاصل في أوروبا تبعاً لهذا التصاعد على وقع المذبحة في غزة، وهو تصاعد متصل بالتأصيل الحضاري الغربي، عبر منظومة قيم تستعلي على شعوب العالم وتنظر لها بشكل دوني.

يدرك الإيرانيون أن مهمتهم التأريخية في النهضة الإسلامية المعاصرة، تعترضها عقبات عصية، ليست محصورة في التحريض المذهبي السلفي والوهابي والخليجي تُجاه الأكثرية الشيعية في إيران، ولا في الإطار التفسيخي القومي بين العرب والفرس مثلاً، ولا في مركزية الشر الإسرائيلي، إنما في الصراع الحضاري والثقافي الممتد بين الشرق والغرب، وطبيعي أن يتكاتف الغرب ضد إيران، دفاعاً عن قيمه المادية، وهو يجدها تنهض رغم الحصار المطبق عليها منذ ثورتها الإسلامية عام 1979، لتتطور علمياً وعسكرياً وتطمح بمشروع نووي وصل إلى إنجاز تخصيب اليورانيوم بنسب عالية، وإن ضمن مشروع مدني، لكنه الغرب ونظرته المادية المستكبرة، لا يريد أن يرى نهضة إسلامية شرقية قائمة على العلم والدين، لما يمثله هذا الثنائي من عصف قوي في أسس الفكر الغربي وأصول الحضارة الغربية، وهو ما يفسر هذا التكالب الغربي طوال عقود خمسة متصلة مضت، ضد إيران ومشروعها النووي بأساسها الإسلامي الثوري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى