نتنياهو آخر الملوك.. أسير وهم الخلود وصانع مقبرته بيديه

د. لينا الطبال..
منذ أساطير الملوك الذين ابتلعهم الغرور، جلجامش الذي سعى إلى الخلود، ونيرون الذي لعب بالنار.. يُولد في كل زمن ملك يظن نفسه فوق البشر.
في إسرائيل اسمه بنيامين نتنياهو “بيبي ملك إسرائيل”.. نتنياهو يؤمن فعلا أنه ملك توراتي وصل بالخطأ إلى القرن الحادي والعشرين.. هو ملك يمتلك كل أنواع الحروب.
وعندما ينهار الجنود على حدود غزة، أو يتساقط المدنيون في بيروت، يبتسم الملك.. ويخبر رعاياه أن هذه الدماء هي عربون الأمان، يذكرهم بضرورته، وأنه وحده مفتاح النجاة،
إنه آخر ملوك إسرائيل، ملك من ورق، يحكم مملكة تتآكل من الداخل.. نتنياهو بنى مجده على أنقاض السلام… سياسة نتنياهو أقرب إلى لعنة قديمة: كلما اقترب من عقد هدنة، فجّر حرباً جديدة.. السلام لديه هو دوام الحرب.
ملك بلا حكمة، هكذا كان ابن خلدون ليكتب عنه؛ فالملك إذا تجرد من العقل والتدبير انقلب وبالًا على صاحبه ورعيته.
هو نسخة من ترامب في هوسه بكل ما هو “ترند”.. وكلاهما أسير وهم الخلود عبر العناوين العريضة والجوائز الفارغة. إنهما يعيشان في زمن رقمي يعتقدان، أن التأريخ تطبيق قابل للبرمجة، أو أنه خوارزمية يمكن خداعها، التأريخ يدون كل شيء، لكنه لا يستجيب لرغبات الملوك ولا لأحلام النرجسيين، إنه قاضٍ صامت.. التأريخ سيكتب عنهم من المؤكد ويدوّن سقوطهم الفاقع.
في ليل غزة، يحيك نتنياهو خيوط غزوه الجديد.. الغزوات السابقة لم تكفه، يريد محو العمران وقلع البشر، ليتحولوا إلى أطياف تائهة في المنافي. يسميها “خروج طوعي”، والقانون الدولي يسميها باسمها الحقيقي: تهجير قسري، جريمة حرب، جريمة ضد الإنسانية (بموجب اتفاقيات جنيف 1949 وميثاق روما 1998).
لكن، ألم يتعلم نتنياهو شيئاً من جنرالات الفراغ والغباء؟
اذهب إذاً واستحضر روح “غولدا مائير” وهي ستخبرك أن الفراغ لا يبتلع غزة. ستضحك في وجهك وتقول: “أحسنت يا بيبي! لقد أعدت لنا نفس الغباء القديم، ألا تعلم أن هذا الفراغ سيلد أجيالاً أكثر قوة؟ ألا تعلم أن كل جدار تهدمه في غزة سيقوم مقامه شاهد قبر لك ولملكتك الورقية؟.
هل ما زلت تحلم بإسرائيل الكبرى يا بيبي؟ إنها مملكة الرماد، تنمو بالدم وتنطفئ بالدم أيضا.
أنظر إلى الشارع الإسرائيلي يغلي.. التظاهرات تملأ الساحات، واللافتات تصرخ “كفى، انتهت اللعبة يا بيبي”.. الحرب التي وعدت شعبك بالنصر بها تحولت إلى كابوس يبتلع جنودك ويترك العائلات في عزاء مفتوح.
لا احتلال لغزة، ولا أوهام مملكة توراتية… افهم أن “اللعبة انتهت”، ألم تدرك أن غزة ليست مخيما صغيرا تحتله دباباتك؟ ألم تدرك أن غزة وحش يتنفس من تحت الركام؟ مخرجك الوحيد الآن هو الاعتراف بالواقع والمسارعة إلى فتح الباب… اقبل بالصفقة الآن… صفقة تُعيد بها الأسرى، وانسحاب يُنقذ ما تبقى من صورة جيشك الغارق في الرمال.
هذه الحرب يجب أن تنتهي فوراً، لا عرش يبقى على الدم، ولا جيش ينجو من لعنة الأطفال الجوعى أو المدفونين تحت الركام، لا مخرج لك إلا بصفقة أسرى وانسحاب.
نتنياهو، ملك توراتي مشغول بالخلود لا بالجنود، يفضل أن يترك أسرى بلاده في أنفاق غزة، يذوبون في العتمة، على أن يواجه لحظة الحقيقة… يُلقى بهم في محرقة السياسة ليكسب يوماً آخر على عرشه.
هنا أيضا في لبنان لا أحد يذكر الأسرى.. انظروا إلى لبنان.. هنا لا يوجد ملك واحد، هنا قطيع من الملوك الصغار. هواة سلطة لا يجيدون حتى طقوس الحكم، ويتقنون الصمت فقط كطقس يومي.. 19 أسيرا لبنانيا في السجون الإسرائيلية، لا أحد يذكر أسماءهم. صمت… الرئيس مشغول بقص شرائط المهرجانات، ورئيس الحكومة يتصور مع عمرو دياب، والوزراء يتنافسون بين بعضهم على شاشة التلفزيون.. صمت أيضا.
هل تريدون معرفة كم هو محظوظ نتنياهو؟ الهجرة المعاكسة لمثقفي اليسار والليبراليين هي جائزة “اللوتو” التي حاز عليها.. هؤلاء لم يغادروا حبًا بغزة ودفاعاً عنها، لقد رحلوا لأنهم لم يستطيعوا تحمّل سياسة الملك.. “المزعجون” هكذا يدعوهم خرجوا أخيرا…
الآن يبقى البلد له ولجوقته الحاخامية: الأشقر سموتريش والمهرج بن غفير. ثنائي الكوميديا السوداء اللذان سيرافقان ملكهما في رحلته الأخيرة نحو لاهاي.
هذا ليس مقالاً عن نتنياهو كما يقدم نفسه ملك للتأريخ، هذا مقال عن لحظة كابوس الملك: يوم تُبرم الصفقة.
حين تعود الوجوه من زنازين الظلام: مروان البرغوثي، يده المرفوعة بشارة النصر، أحمد سعدات، بكوفيته الحمراء.. وعبد الله البرغوثي، بنظرة صلبة.
هذه الصور وحدها ستفكك سردية كاملة، وتستحضر التأريخ ليتقاطع الماضي مع الحاضر، ويشهد على انهيار السلطة الملك.. نتنياهو يعرف ذلك.. جيدا.
يعرف أن صورة واحدة لأسير محرر أقوى من كل دباباته وترسانته، وأن ابتسامة مروان البرغوثي قد تُسقط عرشه الذي كلفه عقود من الدم.
في النهاية، نتنياهو لا يفاوض على أسراه ولا على مستقبل غزة، هو يفاوض على عمر عرشه فقط… وعلى قوته.. هذه القوة التي يعبدها ستسحقه في النهاية.
نهاية نتنياهو ليست قادمة من أعدائه، سيسقط على يد جهاز سلطة غبية خطها بنفسه… من الخراب الذي بناه كأداة حكم فصار آلية سقوط.
قدر نتنياهو قد بدأ منذ زمن، يسير نحوه ببطء ملك أعمى، إنه ملك بلا حكمة، ولا يعلم أن الخلود الذي يطارده هو اسمه المنقوش على جدار الانهيار الأخير.



