اخر الأخباراوراق المراقب

الإمام الرضا ونضال نشر العلم

محمد علي جواد تقي..

روى عبد السلام بن صالح الهروي عن الإمام الرضا أنه قال:

“رحم الله عبداً أحيا أمرنا”، فقال: وكيف يُحيا أمركم؟ قال، عليه السلام: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن علومنا لاتبعونا”.

ما الفرق بين العلوم الدينية، والعلوم البشرية –إن جاز التعبير-؟ ولماذا الحكام، على مر التأريخ دعموا العلوم البشرية وقمعوا العلوم الدينية؟

على أعتاب حلول ذكرى مولد الامام علي بن موسى الرضا، عليهما السلام، يجد السؤالان خير مناسبة للبحث عن الجواب، او ربما الاجوبة الشافية، كون المناسبة عن مولد عالم آل محمد، كما سمّاه أباه؛ الامام موسى بن جعفر الكاظم، عليهما السلام.

علم الوعي والثقافة

ما كان يميز علم الامام الرضا عن سائر العلوم ورجالاتها، أنه كان علماً “خارج الصندوق”، كما يُطلق على بعض المناهج الفكرية اليوم، فهو ليس من صنوف العلوم النظرية الجامدة تضمها صفحات الكتب، وليس مجرد تجارب واستنتاجات لمسائل نظرية، ربما ترقى الى الابتكار والاختراع، إنها كانت علوما تهم الانسان في شخصيته الذاتية، وحياته الاجتماعية، فهي تفيده بكل شيء في الحياة الدنيا، وفي الحياة الآخرة ايضاً، وبكلمة؛ إنها علوم تحرك العقل وليس الذهن والدماغ البشري فقط، والعقل هو الذي يرشد الانسان الى الجسم المعدني الهائل الذي جعله يطير في الأعالي، بأن ينقل المسافرين من أماكن بعيدة خلال دقائق وساعات معدودة، لا أن تحمل القنابل وتلقيها على رؤوس الناس وتقتل وتدمر.

ويُعد علم العقائد من العلوم الباهرة والتأسيسية في حياة كل أمة ناهضة، وقد أولى الأئمة المعصومون في سيرة حياتهم مع مجتمعاتهم، هذا العلم أهمية بالغة لأمرين: الأول: حفاظاً على عقيدة الناس من الانحراف والتضليل، لاسيما ما يتعلق بالتوحيد، والمعاد، والعدل، والأمر الثاني: لحفظ العقيدة ذاتها من التأويل والتشويه والوضع بغير ما خلّفه رسول الله، صلى الله عليه وآله.

المأمون يستنجد بالفكر اليوناني

إنها لحقيقة يُقرها كلّ ذي لُبّ، وهي؛ أن العلم لا ينكره إلا غير العالم، لأن حقائق العلم واحدة وثابتة للوجدان البشري، مثل؛ الجاذبية، وتمدد الحديد بالحرارة، ونتائج جدول الضرب، كما بشّر القرآن الكريم بحقائق علمية أخرى نورت الانسان بذاته، وبالحياة التي يعيشها، وأنه يولد ولا يحمل معه سوى الفطرة السليمة، ثم يكتسب العلوم والمعارف، ويعيش الى أجلٍ مسمّى، وأن الظلم لا يدوم، وأن العاقبة للمتقين، هذه الحقائق تقف بالضدّ من طموحات التسلّط عند شخص مثل المأمون المعاصر للإمام الرضا، عليه السلام، استقدمه من المدينة عَنوةً لفرض سيطرته عليه، كما فعل أبوه هارون مع الامام الكاظم، فهذا استقدم الامام الكاظم الى بغداد، وذاك، استقدم الامام الرضا الى خراسان، متبعاً سياسة جديدة بخلاف سياسة أسلافه بالتنكيل والقمع ضد أئمة الحق، فاستنجد بالفكر الاجنبي لمواجهة علوم الاسلام، لسبب بسيط واحد، من جملة أسباب؛ أن هذه العلوم تبعث في المسلمين روح النهضة، والتحدي، والتغيير، والمطالبة بالعدل والحرية والمواساة التي بشّر بها الاسلام المحمدي الأصيل.

ويذكر المؤرخون أن المأمون الذي كان قريباً من الثقافة الفارسية القديمة، فرأى في الافكار التبريرية لملوك فارس البائدين، والقائمة على تخدير الناس وتمييعهم، خير وسيلة لنشر ثقافة الصمت أمام القوي، والطاعة للحاكم مقابل المال والغذاء، وأن “الله في السماء والشاهنشاه –ملك الملوك- في الأرض، ولا يعلم بمصلحة العباد والبلاد سوى الملوك”!

ثم لا ننسى حقيقة هامة في هذا السياق، أن المأمون وسائر الحكام العباسيين، بل والأمويين ايضاً، سببوا من خلال سياساتهم الاجرامية والجائرة، نفور المسلمين عن دينهم وعقيدتهم، لاسيما في صفوف المَوالي (المسلمون من غير العرب)، ورسم صورة مشوهة للإسلام وقيمه ومبادئه التي أرسى دعائمها رسول الله، ومن بعده أمير المؤمنين، ولتكون الأرضية صالحة لنشر تلكم الثقافات والافكار بين المسلمين، ليكون نداً للفكر الإسلامي الأصيل “عن طريق تطعيم الافكار والعقائد الاسلامية وعلم الكلام الاسلامي بأفكار أرسطو، وأفلاطون، وغيرهما، فكان أشبه بالانظمة التي ترتدي لباس الاسلام، و تسوّق الخمور ثم تعاقب من يتناوله، أو تقطع يد السارق الذي تدفعه سياسات التمييز والإحجاف لأن يسرق لسدّ رمقه”. (التأريخ الاسلامي- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).

وينقل العلامة المجلس في بحاره: أن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى طلب منهم خزانة كتب اليونان، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد، فاستشار الملك خواصه في هذا، فقالوا بالرفض، إلا مُطرانا واحدا قال: جهزها اليهم، فهذه العلوم ما دخلت على دولة شرعية إلا افسدتها، وأوقعت الاختلاف بين علمائها”.

وهذا ما أراده المأمون العباسي؛ نشر روح التشكيك في نفوس المسلمين بدعوى استجلاء الآراء الاخرى، وعدم الركون الى رأي واحد، او كما يُطلق عليه اليوم بـ “التطرّف”، وهو مصطلح انطلق بمفهومه من ذاك الزمان لمغالطة المنهج الاسلامي في التفكير والوصول الى الحقائق، ومن ثمّ؛ لا يقين، ولا ثبات، ولا التزام بفكرة او حقيقة علمية معينة، كل شيء خاضع للتغيير والتحوّل، وهذا الاسلوب “التمييعي” هو الذي يحيد الناس عن التفكير في ظلم الحاكم وجوره وسياساته الفاشلة، بدعوى أن الاسباب والعلل ليست فيه، وإنما في أمور أخرى، ويبقى الناس في دوامة البحث عن الحلول الى ما لانهاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى