اراء

تصميم ضريح الشهيد الأقدس.. التوفيق الإلهي الخالص

بقلم: سارة عليان..

في حضرة أهل العلم والجهاد والشهادة، يُسخَّر الفن لتجسيد قيمهم ومبادئهم وتضحياتهم، لتبقى بركاتها تظلل أثرهم في عالم الدنيا، وليمتدّ فكرهم وروحهم في فكر وروح الأمة، هكذا هم قادتنا، نستذكرهم باستشعار بركاتهم حولنا، وبكل ذرة عمل وجهد وإبداع، قدمناها في محضر وجودهم وكذلك شهادتهم.

لقد شكلت تجربة تصميم ضريح سماحة الشهيد الأقدس السيد حسن نصر الله (رض) بالنسبة للمهندس المعماري الأستاذ وائل مصطفى، تجربة فريدة واستثنائية وعظيمة، لا تقارن بما سبقها ولا بما يليها من تجارب، في البعد المعنوي والأثر الروحي والعاطفي وكذلك المهني.

“لم يكن اختياري لتصميم ضريح سماحة الشهيد الأقدس (قدس) عملية مباشرة أو مقصودة، بل كان توفيقًا إلهيًا خالصًا”، بكلماته هذه يختصر المهندس الموقف، مشيرًا إلى أن القصة بدأت عندما طُلب منه المساعدة من قبل صديق كان يعمل على تحضيرات التشييع في الأسبوع الأخير من الحرب، حيث اجتمع به آنذاك لمناقشة بعض الأمور اللوجستية المتعلقة بالتشييع، كتحضير مسبق في حال حددت القيادة موعدًا لذلك.

وخلال هذا العمل، أبدى المصمم رغبته في المساهمة بتصميم كل ما يتعلق بالمرقد والتشييع، دون العلم حينها أن مرقدًا مؤقتًا سيُقام إلى حين الانتهاء من دراسة المرقد النهائي، وأن العمل عليه قد أُوكل إلى شركة هندسية لم تحسم بعد أمر تصميم الضريح.

كان لدى المهندس مصطفى هاجس عميق بأن يقدم شيئًا للسيد، وكونه مدنيًا لا يحمل السلاح، “فلم أجد تعبيرًا أقوى من أن أهب تصاميمي، المجبولة بشيء من روحي، لهذا المشروع”. في السياق العاطفي عينه، يشير الى حالة من الحماس لا توصف قد تملكته يومها، ورغبة جامحة في العمل طوال الليل لإنجاز أول مقترح للضريح، وبالفعل ومع مرور الأيام، قدّم ثمانية اقتراحات، اختير من بينها التصميم الحالي.

وفقًا للمصمم خضع التصميم للعديد من المراحل والتعديلات، والمقترحات الثمانية التي قدمها، كانت جميعها جيدة، لكن المتغيرات التي واجهت فريق العمل فرضت إعادة النظر باستمرار للوصول إلى التصميم الأمثل، منذ البداية، كان الهاجس الأساسي أن يكون التصميم أصيلًا، لا يشبه أي ضريح آخر، ليعكس تفرد السيد وشخصيته.

كانت المهمة صعبة، إذ كيف يمكن أن نعبر عن عظمة السيد في شكل معماري؟ لذلك، سعى القيّمون إلى تجسيد القيم التي تميز بها، فجاء التصميم مبنيًا على ثلاثة أبعاد رئيسة: التواضع والزهد حيث جاء الضريح بتصميم بسيط، بعيداً عن التكلف، بمواد متواضعة وحجم متناسق، ليعكس روح السيد التي تجلّت في بساطته. البعد الثاني هو الإيمان والتوحيد العملي والذي عُبّر عنه من خلال كتلة واحدة، صلبة، متدرجة، ومفتوحة نحو السماء، لتجسد صلته العميقة بالله، وتوجهه الدائم نحو العلو والسمو. أما البعد الأخير فكان الصلابة والقوة والتي اعتمد فيها على الإحساس المعدني في الضريح، ليحمل إحساسًا بالقوة والصلابة، تمامًا كما كان السيد ثابتًا في مواقفه.

يلفت المهندس مصطفى، إلى أنه ومع ذلك، تبقى هذه مجرد محاولات فنية من مصمم معماري يسعى للتعبير عن إيمان وعظمة وقوة السيد، موقنًا أن لا شيء من حطام الدنيا يمكنه أن يفي الشهداء حقهم أو أن يعبر عن مكانتهم الحقيقية.

وفي سياق متصل، يوضح أيضًا أن التصميم عبارة عن كتلة واحدة تتجسد في هيكل معدني على شكل مستطيلات متوازية، ويحمل بين أعمدته أربعة ألواح من الحديد الأسود، مقصوصة على هيأة قنطرة تجمع بين الطراز الإسلامي والعمارة اللبنانية. تمتد هذه الألواح المزخرفة بأنماط هندسية إسلامية لتشكّل تاجًا يكلّل الهيكل، مضفية عليه حضورًا روحيًا مميزًا. التصميم هو مزيج متوازن بين العناصر المعمارية الإسلامية واللغة العصرية.

لعلّ أصعب ما واجهه المهندس في تصميمه كان اختيار العناصر والمواد، فالأمر لم يكن مجرد قرار جمالي أو تقني، بل كان مرتبطًا بالهوية الثقافية والدينية لشخصية فريدة. في مثل هذه الحالات، لا يمكن اعتماد أي عنصر معماري بشكل عشوائي، إذ يحمل كل تفصيل دلالة ورمزًا.

في لبنان، تواجه العمارة الإسلامية الخاصة بشيعة لبنان معضلة غياب هوية واضحة ومستقلة، إذ لا يوجد تراث معماري إسلامي لبناني شيعي مميز، كما أن استخدام العناصر التأريخية المتعارف عليها قد يربط التصميم بحقبات أو أنظمة سياسية لا تعكس حقيقة السيد، هذه الإشكالية متجذرة في منظومة معقدة من الأسباب السياسية والتأريخية، مما جعل إيجاد لغة معمارية محايدة تحديًا كبيرًا.

في ظل هذا الواقع، كان على المهندس أن يبحث عن أسلوب معماري حديث وشامل، لا يحمل الضريح أي انتماء محدد أو دلالات لا تنسجم مع شخصية السيد، بل يعبر عنه كرمز أممي تتجاوز هويته الحدود السياسية والجغرافية. قد يبدو الأمر بسيطًا لغير المتخصص، لكن العمارة الإسلامية عبر التأريخ ارتبطت بأنظمة الحكم المختلفة، ولكل حقبة ودولة طابعها المميز، مما جعل تصميم الضريح أشبه بالسير بين الألغام، بحثًا عن المشترك بين هذه الأنماط وصياغته بلغة معمارية حديثة تعبر عن السيد كما هو: قائد أممي عابر للحدود والانتماءات الضيقة.

“هذا التصميم سيظل أعظم ما أنجزت، مصدر اعتزازي وفخري طوال العمر، سأروي لأطفالي، وإن وُفِّقتُ، لأحفادي، أن هذه العشرة أمتار المربعة تساوي كل أعمالي، وأنها لمسة لطف إلهية منحني إياها الله”.

يختم المهندس كلامه بهذا الفيض من الفخر والحب والامتنان، لله سبحانه على توفيقه، ولبركات السيد الشهيد الأقدس التي أتاحت له بأن يبقى هذا العمل “جزءًا من روحي وعقلي لما بقي من عمري”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى