اخر الأخبارثقافية

“غبار” محاولة إحياء متحف بغداد الذي دمره ونهبه الاحتلال الأمريكي

المراقب العراقي/ المحرر الثقافي…

“غُبار” هو المعرض الجديد للفنان العراقي محمد العبيدي، وهو محاولة إحياء متحف بغداد الذي دمره ونهبه الاحتلال الأمريكي للعراق، ويحمل في مضمونه معاني عديدة، أقلها صرخة مدويّة، من يحمي العالم من الوحش الأمريكي الذي ما فتئ يدمر حضارات العالم، ويعتدي على شعوبها، ويمحو تراثها، وتأريخها؟.

المعرض الذي أختتم فعالياته، أمس الأثنين، نظمه “متحف طرابلس للفنون البصرية” بالتعاون مع معرض رشيد كرامي الدولي، وأقيم في صالة الإدارة بالمعرض.

“غُبار” إذاً محاولة من العبيدي لإحياء صيغة صالة المتحف بصورة مصغّرة، بشكله الداخلي، وتوزيع مقتنياته التي أعاد العبيدي تصنيعها طبق الأصل لما كانت عناصره في المتحف.

ويقول العبيدي: إن “المعرض يعد استعادة بصرية لجريمة كبرى هي بنظر العالم جريمة العصر، وقد طالت المتحف العراقي”.

وأضاف، ان “الزمن كفيل بمحو ما بدأه العدوان، ولكي لا يموت موضوع المتحف بالتقادم الزمني، أو يندثر”، ويوضح العبيدي: “فكرت بكيفية إحيائه، فصنعت صالة شبيهة بصالة المتحف، بما يحتويه من عناصر، يوحي للمشاهد أو المتلقي أنه يعيش حالة المتحف قبل الغزو”.

الفنان العراقي الذي يؤثر وصف الهجوم الامريكي على العراق بــ”الغزو”، قدّم مثالاً على محاولته، وهو نصب “نابو” القائم في منتصف المتحف، ذاكراً أنه وزع بقية المواضيع – القطع تماماً كما كانت في المتحف العراقي، وحواليه الخراب.

وفي لوحة تعريفية بالمعرض عند مدخله، أنه “في العام 2003، وأثناء فوضى الاحتلال، لم يكن المتحف الوطني العراقي مجرد مبنىً يُنهب، بل كان معبداً لذاكرة تُغتال”.

ويعلّق العبيدي على العدوان الذي استهدف المتحف، أن “أكثر من 15 آلاف قطعة أثرية من الرُقم الطينية، والتماثيل، والأختام، والمخطوطات اختفت في أيام، كما تختفي ملامح شعب إذا مُحي تأريخه”، مضيفاً، أنها “محاولة إحياء ما تدمر، وسرق، وكي لا ننسى الموضوع، فهذه جريمة كبرى أن تغتال حضارة شعب، وتقتل ذاكرته، وهي عالمة إنها أول حضارة في العالم”.

يستحضر المعرض اللحظة التي تهمشّت وتشظت فيها ألواح الكتابة، وتهاوى فيها تأريخ يمتد لآلاف السنين. يقول العبيدي: “هنا، لا نعرض الآثار الأصلية، بل نعرض صدى ما تحطم؛ أعمال فنية تعيد تشكيل الرُقَم الطينية المهمّشة، والتماثيل المكسورة، لا لتجميل الخراب، بل لتوثيقه، وتذكير العالم إن الطين، حين يُكسر، يصرخ”.

القطع ليست هي القطع الأصلية، بل إعادة تكوين لما فات ونهب وتكسر، وهو محاولة فنية لاستعادة ملامح ما ضاع؛ إنه صدى للمتحف وعناصره بلغة اللون والتكوين والتشقق، فــ “كلّ تشقّق هنا يحكي قصة مدينة، أو ملك، أو قانون، أو صلاة كتبت على الطين قبل آلاف السنين”، يفيد العبيدي معلقاً، إن “المعرض ليس فقط رثاء لما فقد، بل مقاومة فنية ضد النسيان”.

في المعرض مجموعة كتب محترقة تتلو الألواح المسمارية، تذكّر العبيدي بغزو المغول لبغداد، وحرقهم مكتبتها الضخمة، ويقارن بين ممارسات المغول، وممارسات العناصر الأمريكية التي صنّفها بثلاث: فئة ممنهجة، تستطيع تمييز القطع الأصيلة عن القطع العادية، وفئة مؤدلجة أخذت بعض المقتنيات الخاصة للتأريخ بطريقة هدفت تغييب التأريخ، وطمسه، وتغيير فكر وثقافة العراق، وفئة الرعاع الذين دخلوا حتى يُغَطّوا على الجريمة، ومنهم كثير من المسلحين، بينما كان الجنود الأمريكيون يتفرجون معتبرين إنهم ليسوا مخوّلين بالدفاع عن المتحف.

ثم مجموعة من الوثائق الورقية التي عالجها العبيدي لتظهر محروقة كما الكثير من الوثائق التي احترقت في المتحف، ثم نصب لرجلٍ من الحديد يحمل مطرقة ضخمة، تُعرَفُ بـــ”المُهَدّة” وتستخدم للتكسير والتدمير، والنصب رمز لوحشية التدمير، فالإناء النذري من الوَرْكاء، كاملاً، وقطعة تشير إلى بقايا قاعدته بعد تكسيره، إضافة لخزانة صغيرة تحوي عشرات الألواح الطينية وعليها كتابات مسمارية.

ومن أبرز العناصر المنتشرة نهاية المعرض نصب لوحة “العدّ الستيني” ويشرح العبيدي أنها “تقسيم البابليين للزمن، كالساعة بستين دقيقة، والدقيقة بستين ثانية”، إشارة إلى التطوّر العلمي الذي بلغته حضارة العراق القديمة، إلى جانبها لوحة مسمارية ضخمة، أمامها نصب صغير لرجل معاصر، قال العبيدي إنه ينوي صناعة لوحة ضخمة مثلها تعبيراً عن عظمة الحضارة العراقية.

تشدّ الحرقة على خناق العبيدي، لا يستطيع لجم انفعالاته رغم مرور أكثر من عقدين على الغزو، فيعيد توصيف المعرض، مؤكّداً إصراره على إيحائه قائلاً: “المعرض عملية استرجاع لهذه الجريمة، وتوثيق لها، وقد كانت أقسى جرائم التأريخ”.

ويضيف: “الاحتلال لم يحترم الهوية، وعمل بشكلٍ مركّز على محو ذاكرة، وتأريخ أعظم بلدان العالم، وأول حضارة في التأريخ، فيها منهجية لكل الأمور الحياتية الانسانية، وكل عناصر المجتمع المدني الأول وأساسها الحرف المسماري منذ العهد السامري الأول. هذه الجريمة هي أكبر وأقسى الجرائم التي وقعت في التأريخ”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى