اراء

قرار التقسيم وتداعياته.. الوهم السوفياتي

بقلم: موفق محادين..

من الصعب فصل أيّة قرارات أو اتفاقيات ومعاهدات ومشاريع طرحت أو رُفضت حول القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، عن قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني 1947، والقاضي بتمزيق أو تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، علماً بأنّ القوى التي كانت تمثّل الجانب اليهودي آنذاك كانت عصابات إجرامية إرهابية، بعضها كان مصنّفاً على قوائم الإرهاب في بريطانيا نفسها.

نستعيد الحديث عن هذا القرار وحيثياته، ليس فقط تزامناً مع تأريخه في تشرين الثاني بل لأنه شكّل ولا يزال المرجعية السياسية للنظام الرسمي، العربي والدولي ومجمل تصوّراته ومشاريعه حول ما يُعرف بحلّ الدولتين، في سياق تغذية الأوهام وصرف الانتباه عن قانون التناقض الرئيس وخط القتال والمقاومة وعن الحقّ الطبيعي للشعب الفلسطيني في أرضه التأريخية.

الشائع أنّ اتفاق يالطا بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية وبينهم ستالين، أعاد تقسيم العالم، وأنّ الغرب، وخاصة لندن وواشنطن، تنازل عن كلّ أوروبا الشرقية لستالين مقابل وضع يد الغرب على بقية العالم، ومن ضمن ذلك فلسطين، مقدّمة لإقامة الكيان الصهيوني.

مقابل موضوع يالطا واقتسام العالم، تلخّص دراسة للباحث حسام عبد الكريم تحت عنوان (تقسيم فلسطين) أسباب التحوّل في موقف ستالين وقد ردّ هذا الموقف إلى مجموعة من المعطيات المتناقضة الآتية:

1انقسام مجاميع الاستيطان اليهودي في فلسطين بين الكيبوتسات والموشاف (المستوطنات الزراعية الجماعية) التي كانت حتى ذلك الوقت تعتمد على أشكال جماعية من العمل والحياة الاجتماعية، وتسوّق نفسها تحت عناوين يسارية، وبين عصابات شديدة التطرّف لم تعجبها المناورات السياسية البريطانية في ظروف الحرب العالمية الثانية وإرسالها إشارات (وسطية) للعرب حول تقنين الهجرة اليهودية.

فلعبت المجاميع الأولى على الوتر اليساري لدفع روسيا السوفياتية لتغيير مواقف الكومنترن الشيوعي المناهضة للصهيونية، ووجدت استجابة من أوساط في الحزب الشيوعي في موسكو غالبيتها من اليهود الذين تعود جذورهم إلى تيار المناشفة في الحزب، والذي كان يسمّيه ستالين بالتيار اليهودي قبل الثورة، الذي عاد وركب موجة البلاشفة بعد انتصار الثورة وتبوّأ مواقع أساسية في قيادة الحزب والدولة.

2الاصطفافات العربية، الرسمية والشعبية بعيداً عن أية مصالح روسية، بل في مواجهتها، فالجانب العربي الرسمي كان خاضعاً بالمطلق لبريطانيا، الخصم المعروف لروسيا الاشتراكية، والجانب الشعبي العربي كان مصطفاً في غالبيته الساحقة خلف الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين الذي أدّى دوراً بارزاً في نسج قنوات وعلاقات علنية وسرية لقادة شعبيين ورسميين عرب مع النظام الهتلري في ألمانيا، وفي تشكيل فيلق إسلامي من دول البلقان والمنطقة العربية للقتال مع الجيوش الألمانية الهتلرية ضدّ الجيش السوفياتي.

وكذلك إطلاق إذاعة بالعربية من برلين تدعو الجنود المسلمين في الجيش الأحمر السوفياتي للعصيان ومغادرة الجيش (الكافر) والالتحاق بجيوش هتلر (صديق المسلمين)، وقد تبيّن أنّ المذيع الأساسي في تلك الإذاعة كان عميلاً للمخابرات البريطانية، وعمل لاحقاً في إذاعة كانت تبثّ من الضفة الغربية بعد اتحادها مع الأردن.

كما يشار كذلك إلى إطلاق إذاعة أخرى خلال الحرب الأهلية الإسبانية كانت مموّلة من المخابرات الألمانية الهتلرية وكانت تدعو المسلمين المؤيّدين للثورة الإسبانية إلى الالتحاق بالكتيبة المغربية في جيش فرانكو المتحالف مع النازية.

3ما يقال حول دور علماء يهود في تسريب أسرار القنبلة النووية إلى موسكو.

4المعطيات المرتبطة بمحاولات ستالين استقطاب تعاطف يهود أميركا ضدّ ألمانيا الهتلرية التي أظهرت مواقف علنية ضدّ اليهود.

التداعيات الموهومة للمعطيات السابقة

لم تتوقّف التداعيات السياسية للانفتاح الستاليني على اليهود عند ظروف الحرب العالمية الثانية، بل امتدّت إلى ما بعدها وتشكّلت أوهام سوفياتية حول إمكانية تحوّل المشروع اليهودي إلى (دولة اشتراكية) مناهضة لبريطانيا الإمبريالية، ومن جملة ما يذكره الباحث حسام عبد الكريم:

إرسال وفد من موسكو إلى فلسطين عام 1942، رغم أنّ الوفد ظلّ يميّز بين اليهودي والصهيوني ولم يلتقِ مع أيّ شخصية صهيونية مثل بن غوريون وغولدا مائير ورفض الالتقاء مع الوكالة اليهودية، إلّا أنه ظلّ مسكوناً بفكرة البحث عن بدائل يهودية اشتراكية، كما التقى مع عدد من الفلسطينيين وبينهم قيادات شيوعية مثل عبد الله البندك وإبراهيم حسن خليل.

واصلت موسكو البناء على هذه الأوهام وضغطت لإشراك الوكالة اليهودية في نقاشات الجمعية العامّة حول فلسطين في نيسان 1947، حتى أنّ مندوب موسكو في الأمم المتحدة، غروميكو، كان من أشدّ المتحمّسين للتقسيم الذي حظي بموافقة موسكو فور صياغته في مشروع القرار المعروف والصادر بتأريخ 29/11/1947، ولم يقتصر الأمر على الدولة السوفياتية بل انعكس على غالبية الحركة الشيوعية العربية والعالمية، مع أنّ بعضها كان ضدّ قرار التقسيم  قبل أسابيع فقط من صدور القرار، ونشير هنا إلى الموقف الاستثنائي التأريخي لسكرتير الحزب الشيوعي العراقي وهو في السجن، يوسف سلمان (فهد) الذي رفض القرار وأعدم بسبب ذلك.

إعدامات واعتقالات.. الصِّدام مجدّداً بين موسكو والصهيونية

بعد أن اتضحت حقيقة المشروع الصهيوني كذراع ضارب للإمبريالية، وبعد الفشل الذريع لقوائم (اليسار اليهودي) المنفتحة على موسكو في أوّل انتخابات للكنيست 1949، 24 عضواً من أصل 120، وقبلها التحشيد الصهيوني ليهود روسيا في استقبال غولدا مائير في موسكو 1948، وصولاً إلى مؤامرة الأطباء اليهود لتسميم ستالين والعديد من قادة الحزب الشيوعي السوفياتي عام 1953، حيث قرّر ستالين مراجعة أوهامه السابقة والبطش باللجنة اليهودية الروسية وإعدام 13 عضواً واعتقال الآخرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى