اراء

التطبيع من النافذة أو التكتيك الجديد للتطبيع

بقلم/ أمال لعروسي..

لم يعد التطبيع في العالم العربي مجرد خطوة سياسية تعلن عبر اتفاقات أو لقاءات دبلوماسية بل تحّول إلى عملية أعمق تستهدف البنية التحتية للوعي الجماعي العام.

وبعض الأنظمة التي تتجه اليوم نحو التطبيع لم تعد تراهن على الخطاب الرسمي وحده، بل انتقلت إلى مرحلة إعادة هندسة المخيال الجمعي عبر تفكيك الرموز التأريخية وإعادة تركيب معانٍ جديدة للصراع، وهذا المسار لا ينطلق من ميدان السياسة بل من ميدان الإدراك من الصورة، من الخطاب، من اللغة، من إعادة تعريف الضحية وإعادة تلميع الجلاد .

والخطوة الأولى في هذه العملية هي إنتاج ثوابت مختلقة وسرديات منظمة تصور الفلسطيني كعبء والقضية كمصدر إعاقة للتنمية والاستقرار.

ويتم ذلك عبر تضخيم بعض الظواهر أو عزلها عن سياقها، ثم تقديم الفلسطيني كفاعل عنيف وشيطاني بطبيعته، وليس كشعب يواجه بنية استعمارية مفروضة عليه منذ عقود.

ولقد بدأ ذلك على نحو ما إثر نكبة 1948 بتحميل الفلسطينيين مسؤولية التغلغل اليهودي، ثم تفجر بصورة أكثر وضوحاً بعد ذلك خصوصا إثر اغتيال يوسف السباعي في قبرص في 1978 حيث حُمّلت القيادة الفلسطينية زورا، مسؤولية عدم التجاوب مع عروض السلام، وذلك في إطار تبرير الاستسلام العربي للمطالب الصهيونية.

وركزت الثوابت الوهمية والسردية المختلقة على قلب الاعتبارات السياسية، لكي تتحول المقاومة من حق قانوني مثبت في القانون الدولي إلى تهديد للأمن، ويتحول الاحتلال من عدوان مستمر إلى أمر واقع يمكن التكيف معه.

وبالتوازي جري تبييض صورة شخصيات من الكيان عبر استضافتهم في منابر ترفيهية وثقافية وإنسانية، في محاولة لإضفاء طابع عادي ومحايد على وجودهم، وهذا ليس ترفا إعلاميا بل خطوة محسوبة لكسر الحاجز النفسي لدى الجمهور، وهو عمل بالغت بعض الفضائيات العربية في ممارسته.

وهكذا أصبح الآخر لا يتم تقديمه كعدو أبدا بل كجار محتمل وكشريك اقتصادي أو كشخص عادي لا علاقة له بمؤسسة الاحتلال، وهكذا يتم تذويب رمزية الصراع تدريجيا هكذا يصبح الوعي نفسه هو ساحة الاشتباك.

من هنا بدأ التطبيع الحقيقي من إعادة تعريف معاني الخير والشر والحق والباطل ونقل الصراع من كونه صراعا تحرريا إلى كونه ملفا سياسيا يمكن التفاوض عليه.

وعندما تنجح هذه العملية ويتقبل الجمهور الخطاب الجديد يصبح التوقيع على الاتفاقيات مجرد خطوة تقنية في نهاية الطريق لا صدمة سياسية.

من هنا ندرك، أن التصدي لهذه الموجة لا يكون بالشعارات الوطنية ولا بالمواقف الاخلاقية المجردة بل بالتحليل الجيوسياسي الرصين المجتهد الذي يكشف ان عمليات شيطنة الفلسطيني ليست معطًى ثقافيا بل أداة لتبرير انخراط الأنظمة في ترتيبات اقليمية جديدة، في حين أن التطبيع لا يقدم لهذه الأنظمة أمنا ولا يوفر لها وزنا إقليميا بل يدمجها في منظومة تعتمد على مركز قوة واحد، وتجردها من أوراق الضغط .

وتجارب أوسلو، كامب ديفيد، وادي عربة كلها تثبت ان التطبيع لم يوقف الاستيطان ولم يخفف التوتر ولم يعزز استقلال أية دولة دخلت في منظومته بل حدث العكس تماما. توسع الاستيطان وتقلص هامش السيادة وفقدت تلك الدول، القدرة على المناورة أمام الضغط الأمريكي والإسرائيلي.

إن الطرح القائل بان التطبيع حتمية أو ضرورة جيوسياسية ليس سوى إعادة تدوير لفكرة العجز ومحاولة لإقناع الجمهور بان الأنظمة غير قادرة على حماية مصالحها بدون الالتحاق بمحور الاحتلال.

لكن الحقائق الجيوسياسية تظهر، إن القوة الإقليمية تصنع عبر استقلال القرار الوطني وبناء شبكات تعاونٍ متعددة الاتجاهات لا عبر الارتماء في تبعية استراتيجية، لان الدول التي حافظت على مبادئها وبقيت خارج دوائر التطبيع لم تفقد مكانتها بل عززت رصيدها الدبلوماسي واكتسبت موقعا تفاوضيا أقوى.

ومن زاوية استشرافية، فإن مستقبل المنطقة، لن تحدده الاتفاقيات بقدر ما ستحدده قدرة الشعوب على مقاومة إعادة تشكيل وعيها، والأنظمة المطبعة قد تنجح في التحكم بالإعلام لكن الذاكرة السياسية العربية أثبتت، حتّى الآن، أنها عصية على المسح أو النسيان، وأكدت أن فهم طبيعة الصراع وارتباطه بالسيادة والعدالة والتأريخ جعل من الوعي العام حصنا صعب الاختراق.

وإذا صمد هذا الوعي فلن تتمكن أية عملية تطبيع من التحول إلى مسار اجتماعي مستقر مهما توفر لها من دعم خارجي أو داخلي.

ختاماً، المعركة في جوهرها ليست معركة حدود بل معركة مفاهيم وسرديات… هي صراع حول تعريف العدالة، حول معنى الكرامة السياسية وحول شرعية الحق نفسه … ولهذا فان مواجهة موجة التطبيع الجديدة تتطلب عملاً فكرياً وإعلامياً يكشف أدوات الهندسة الناعمة التي تستهدف الوعي.

والمطلوب ليس خطباً عاطفية وبلاغيات وطنية بل خطاباً يستند في وقت واحد وبدون أن يتجاهل منطق القوة، إلى الشرعية الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها ويستلهم تجارب التأريخ النضالية والرؤية الجيوسياسية التي تؤكد إن التحرر والاستقلال ليسا عبئاً بل هما الشرطان الوحيدان لبناء نفوذ حقيقي في عالم مضطرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى