مهندس النفق حرّاً بين الدلالات الرمزية والفضاءات النضالية

بقلم / محمد جردات..
احتدّت عينا محمود العارضة في ساعة صيف من نهارات سجن مجدو الإسرائيلي سنة 1997، عندما نادى عليه السجّان ليتمّ نقله مجدّداً إلى مراكز الشاباك للتحقيق، رأيت الحدّة في عينيه ونظر إلينا نظرة مودّع، ولم يخطر في بالنا أنّ صديقنا الرائع وصاحب النكتة الجميلة والموقوف على ذمّة المحاكمة الإسرائيلية بقضية بسيطة، قد غادرنا إلى عالم المؤبّد بالحكم مدى الحياة بعد أن انكشف سرّه الذي حافظ عليه في جولة التحقيق غداة اعتقاله، وأنه بالحقيقة شارك في عدد من العمليات النوعية مع القائد الشهيد صالح طحاينة والتي أدّت في واحد منها إلى مقتل ضابط إسرائيلي وآخرين.
هناك في الأسر الإسرائيلي الطويل، وحيث انضمّ إلى محمود معظم أشقائه، ليقضوا سنوات طويلة من أعمارهم، نجح محمود في اكتساب مهارات القيادة والثقافة وصقل الذات الإسلامية الثورية، وعلى أرضيّتها وسط إخوانه الأسرى وخاصة في حركة الجهاد الإسلامي، بدأ يعبّئ عشرات الفتية والشباب من ذوي المحكوميّات الخفيفة بهمّة نوعية، ليؤدّوا واجبهم الجهادي المقاوم بعد الإفراج عنهم، ما نتج عنه كثير من النشاطات الفدائية، ولعلّ أبرزها تشكيل كتيبة جنين التي نجحت على مدى أربع سنوات لتكون العنوان الأبرز في العمل الكفاحي على امتداد الضفة الغربية وخاصة في مخيمات الشمال، والتي ساهمت مع غيرها بانطلاق طوفان الأقصى العظيم.
شكّل النجاح المبهر لنفق الحرية في جلبوع والذي هندسه القائد محمود العارضة، عندما جاء في توقيته على قدر من الشعور الفلسطيني والإنساني الجمعي، ما أشعل أفئدة عشرات الملايين من أحرار العالم، وهم يتتبّعون خطوات الأبطال الستة؛ محمود ويعقوب ومحمد ومناضل وزكريا وأيهم، وقد أبدعوا في تحطيم جدار الخزنة في عمق جبال جلبوع، هناك حيث حفروا النفق مع أسرى آخرين ساعدوهم بصمت، طوال ثمانية أشهر من الصبر والكتمان وصراع الأدمغة مع السجّان المسلّح بالفولاذ والباطون وشتى أنواع التكنولوجيا العصرية في المراقبة وحصر الأنفاس.
عاد محمود وإخوانه للأسر بعد أيام من الزحف في سهل مرج بن عامر، وكلّ “إسرائيل” تبحث عنهم وهي تقلب كلّ حجر وتتبع كلّ أثر، ليتمّ اعتقال آخرهم بعد أسبوعين في جنين، حيث بكاهم الناس في الشوارع والبيوت في فلسطين وخارجها من جنين ولبنان حتى آيرلندا وفنزويلا والبرازيل، من يعرفهم ومن لا يعرفهم، من يؤمن بخطهم الجهادي ومن لا يعرف شيئاً عن ذلك.
تدحرج أثر نفق الحرية في جلبوع عميقاً في النفوس، فكانت كتيبة جنين التي أشعلت خط المواجهة مع الكيان الإسرائيلي، فكان الشهداء جميل العموري وعبد الله الحصري وسيف أبو لبدة ومعهم مئات الفتية الذين تخندقوا في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس، وكلّ واحد فيهم يحمل وصية محمود العارضة وقد اعتنق خطه ورؤيته في مشاغلة الاقتحامات العسكرية الإسرائيلية بالنار ومختلف الأدوات القتالية البدائية، وهي الأدوات التي ظلت تتطوّر حتى تحوّلت إلى عبوات ناسفة تمزّق مدرّعات النمر العملاقة.
تفاخر الكيان الإسرائيلي بإعادة اعتقال أبطال النفق، ولسان حاله يقول إنّ القوة نجحت في خنق الأمل، فبزغ أمل غزة ومقاومتها بإعلان المقاومة المدوّي أنّ أبطال النفق سيكونون في صدارة عملية تبادل الأسرى المقبلة، وهذا كان قبل السابع من أكتوبر، حيث هناك أسرى لدى المقاومة منذ زمن، وعندما نجح طوفان الأقصى في أسر العشرات من جنود الاحتلال، ثبت الوعد الغزاوي حتى بدأ بالفعل يحرّر أبطال النفق يتقدّمهم محمد العارضة وزكريا الزبيدي حتى وصل إلى أيهم كممجي ومحمود العارضة، وقد عكس هذا التحرّر في رمزيّته ودلالاته النفسية والكفاحية جملة من الفضاءات التي يعمّ عبقها الشعور الفلسطيني والإنساني ويتفاعل في صداه، وأبرزها:
أولاً: التحرّر بعزيمة الفكرة الثورية، وهي الفكرة التي ظلّت تسيطر على ذهن محمود طوال اعتقاله، وحتى قبل انكشاف سرّه وهو معتقل في سجن مجدو، كان يبحث عن نقاط ضعف الحراسة بنيّة الهرب لاحقاً، وتحمل هذه الفكرة الرافضة للإذعان والخضوع للأسر روح المقاتل الصلب والعنيد من جهة، كما هي وجود برنامج نضالي مستدام في الصراع مع المحتل من دون راحة ولا كلل.
ثانياً: نسف جذور الفكر الصهيوني القائم على تغيير نفسية الأسير الفلسطيني، ليصبح مسالماً مع طول أمد الاعتقال وما فيه من تنفيذ دائم لتعليمات السجّان اليومية، مع الاعتياد على الخضوع في نظام العدّ المتلاحق يومياً، إضافة إلى التفتيش العاري وما يترتّب عليه من تجريد السجّان للأسير من شعوره بالعزة والكرامة، ما يفضي بمجموعه إلى تحويل الأسير إلى مجرّد راغب بالخروج من السجن كجسد محطّم مفرغ من قيم النضال التي سبق أن اعتقل في ظلها، ليأتي نفق الحرية وقد أجهز على جذورها التأصيلية، لذا حرص المحتل على إعادة اعتقالهم ليبطل هذا المفعول الخطير، وعندما نجح بالفعل بإعادة أسرهم، لم تمرّ سوى أربع سنوات حتى كان مهندس فكرة النفق وقائد عملية تنفيذها حرّاً بالنمط النضالي ذاته، عبر قوة الحقّ وهذه المرّة القوة الفلسطينية المسلحة بكلّ ما تحمله من تعزيز فكرة نيل الحرية بالعزيمة وليس بلفتات حسن السيرة والسلوك، أو عبر تسويات سياسية مذلّة.
ثالثاً: تحطيم عنجهية السجّان ومن يقف خلفه من مؤسسة أمنية وشرطيّة واستخبارية، والأهمّ إرغام المستوى السياسي الإسرائيلي، وإجبار كلّ مؤسسات الكيان على النظر للأسير الفلسطيني كصاحب رسالة مضحٍّ، وليس مجرّد إرهابي أو مخرّب أو معتقل أمني، خاصة بعد الجريمة الإسرائيلية الجماعية المنظّمة في تحويل السجون طوال السنتين الماضيتين إلى مسالخ تعذيب وقتل، لأنّ تحرّر أبطال النفق في الدلالة الرمزية ومعظمهم محكوم بالسجن المؤبّد، وسبق أن شاركوا في عميات نوعية سقط فيها جنود إسرائيليون قبل أن يتمّ أسرهم، ليخدعوا السجّان ويضلّلوا منظومته ويتحرّروا لأيام وصلت أسبوعين رغم أنف الدولة التي وضعت كلّ تقنيات الغرب في تطوير السجون، وإنْ أعيد اعتقالهم في واقع وطن صغير ومحروب ومحصور، يتمّ اليوم إخراجهم من الأسر بحافلات إسرائيلية وقد ركعت كلّ منظومة الاحتلال أمام إصرارهم على التحرّر.
دلالات رمزية تضع عملية التحرّر في مجموعها في سياق ملاطمة كفّ المستضعف الأسير لمخرز السجّان، عندما يشمّر عن ساعده ليتحرّر سواء بحفر جذوع الجبال، أو بنجاح رفاقه بأسر جنود العدو، فالأمر سِيَّان حيث فكرة الحرية تنتصر على آسرها طال الزمان أم قصر.



