اخر الأخباراوراق المراقب

انبعاث الروح كإعادة خلق حضارية للإنسان

يُعدّ مفهوم انبعاث الروح من القضايا الكبرى التي دار حولها الجدل الفلسفي والديني عبر التأريخ، وغالبًا ما أُخذ هذا المفهوم بمعناه الحرفي المادي، أي خروج الأجساد من القبور الترابية بعد فنائها، غير أن القراءة الحضارية للقرآن الكريم تفتح أفقًا آخر لفهم هذا المفهوم، ينسجم مع التطور المعرفي للإنسان، ومع منطق السنن الإلهية في الخلق والتكوين.

1- الخلق الأول وفناء الجسد: يبدأ الوجود الإنساني بـ”الخلق الأول”، الذي يتم في إطار العالم المادي القابل للفناء.

يولد الإنسان بجسدٍ مكوَّن من عناصر الأرض، يعيش ضمن شروط المادة والزمان والمكان، ثم يموت فيتحلل جسده وتفقد المادة وظيفتها الأولى.

لكنّ هذا الفناء لا يعني نهاية الإنسان، لأن الجسد المادي ليس هو جوهر الهوية الإنسانية، بل هو أداتها في التجربة الأولى للحياة.

القرآن الكريم يعبّر عن هذه الحقيقة بقوله: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}، فالإعادة إلى الأرض تخص الجسد المادي، أما الهوية الواعية فهي محفوظة عند الله، في عالم الغيب الذي لا تفسده عناصر الفناء.

2- السجل الإلهي: حفظ الهوية الإنسانية: لكل إنسان “سجل” محفوظ عند الله، يتضمن كل ما يتعلق بوجوده وشخصيته وأعماله ونواياه.

هذا السجل ليس ورقًا أو كتابًا مادياً، بل هو نظام وجودي علوي تُسجَّل فيه المعلومات الكاملة عن الكائن الإنساني، كما تُحفظ بيانات الإنسان اليوم في “السحابة الرقمية” (icloud) ولكن على مستوى أعلى من الوجود.

يقول تعالى: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} فالإحياء هنا مرتبط بالكتابة والحفظ، أي إن العودة إلى الحياة في النشأة الأخرى تقوم على استدعاء الهوية المسجَّلة في هذا النظام الإلهي.

3- النشأة الأخرى: إعادة الخلق لا إعادة الجسد: حين يتحدث القرآن عن البعث، فهو لا يقصد إعادة الجسد الترابي كما كان، بل إعادة خلق الإنسان في نشأة أخرى تناسب طبيعة العالم الأخروي.

يقول تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين} هذه الإعادة ليست استرجاعًا للمادة القديمة، بل إعادة للهوية في جسد جديد من نوع آخر، جسدٍ غير زمني، ذي أبعاد وطاقات تتناسب مع قانون الوجود في الآخرة.

4- مرحلة الستر (البرزخ): بين الخلق الأول والنشأة الأخرى، توجد مرحلة انتقالية أشار إليها القرآن الكريم باسم البرزخ، وهذه المرحلة يمكن وصفها بـ”مرحلة الستر”، أي الفترة التي تُستَر فيها حقيقة الإنسان عن العالم المشهود بعد موته.

فالهوية الإنسانية لا تُعدم، بل تبقى محفوظة في نظامٍ غيبي، لكن محتجبة عن إدراكنا الحسي، إنها حالة كمون واحتجاب وجودي، تبقى فيها الروح أو السجل الإنساني في عالم الغيب، إلى أن يُؤذن له بالظهور في النشأة الجديدة.

الآية الكريمة تقول: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} ووراءهم هنا تفيد معنى الحجب والستر؛ أي إن الإنسان، بعد موته، يدخل في منطقة وجودية تقع وراء نطاق حواسّنا وإدراكنا المادي، وبذلك تكون مرحلة الستر هي الفاصل الكوني بين الخلقين: عالم الدنيا وعالم الآخرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى