الاستهانة بالذنوب.. استحكام للجهالة وخذلان للذات

مرتضى معاش..
(فَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى وَشَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الاَوْكَسِ وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَحَمَلَةَ الاَوْزارِ المُسْتَوْجِبِينَ النَّار)
الذنوب والمعاصي من أهم أسباب الوقوع في الجَهالة، لأن الإنسان عندما يستهين بذنوبه ويستخف بها فإنها تحجبه عن المعرفة، فالذنب الذي يُرتكب يحجب جزءًا من عقل المذنب، واذا تجمعت الذنوب تكون كقطرات الأمطار التي تتحول الى سيل مدمِّر تدمر روحه وفكره وقلبه، لذلك فإن الاستهانة بالذنوب هي استهانة بذلك السيل الهادر المدمر الذي يجتاح كل شيء.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (لا مصيبة كاستهانتك بالذنب ورضاك بالحالة التي أنت عليها).
مصيبة كبيرة، لأنها تتجمع مثل كرة الثلج وتتحول الى كارثة، والكوارث تبدأ من سلوك بسيط، وأغلب الكوارث الطبيعية تحدث من إهمال الافراد والمجتمعات واستهانتهم بمخاطرها وعواقبها، حيث تتجمع السلوكيات السيئة وتتراكم لتشكل كارثة.
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن إبليس رضي منكم بالمحقرات).
فالاستهانة تبدأ باستصغار الذنب وكأنه ليس له وجود، او اعتباره أمرا صغيرا وهينا، مثل أن يشتم شخصا آخر، ولكن أي ذنب صغير عندما يعتبره بسيطا وحقيرا هو ذنب كبير، لأن الشيطان يريد ذلك وهو تصغير الذنب، ليكون بداية تسلسل طويل من ارتكاب الذنوب المحقرة.
وحينئذ فالذي يستهين بذنوبه يبدأ عملية سير متواصل لبناء الجهالة في داخله، محققا هدف الشيطان في تكريس الجهالة بأعماقه، وكلما يذنب ويذنب ويواصل ارتكاب الذنوب تزداد الجهالة استحكاما فيه، فالجهالة تحقق للشيطان الاستحواذ التام على المذنب.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (أعظم الذنوب عند الله ذنب أصرَّ عليه عامله).
يكرر الذنب ويصر عليه، ولا يرجع فيتوب لله عز وجل ويوقف سلسلة ذنوبه عندما يرى الخطر الكبير أمامه وفقدانه لنفسه، حيث يستحقر الذنب ويصر عليه، خصوصا أولئك الذين يقللون من أخطار الذنوب، أو يمنّي ويرجّي نفسه بأن الله سوف يغفر له لاحقا.
لكن الله سبحانه وتعالى يغفر للتائب، أما الذي يستهين ويصر على الذنب فإنه يصل إلى طريق لا رجعة فيه، مثل بعض المجرمين الذين يصلون إلى طريق مغلق، مجرمون ارتكبوا جرائم متسلسلة، ومن شدة وكثرة احتقارهم للجرائم التي ارتكبوها والأعمال التي قاموا بها، ويستمرون في احتقارها إلى أن تتراكم وتصبح كبيرة جدا، بحيث إن المذنب نفسه يتصور بأنه لا يمكن أن يصلح نفسه ولا يمكنه التوبة لأنه سار في هذا الطريق، وهذا هو اليأس من رحمة الله.
بطل في ارتكاب الذنوب
المشكلة الأخرى الموجودة عند بعض الناس أنه لا يكتفي بالإصرار والاستهانة بالذنب بل يصل الى مرحلة الابتهاج بالذنب، فيتفاخر فرحا بأنه فعل هذا الذنب ويعتبر نفسه بطلا لأنه تجرّأ وارتكب هذا الذنب، فهناك من يتفاخر بالسرقة أو بالرشوة أو بالفساد.
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (إياك والابتهاج بالذنب، فإن الابتهاج به أعظم من ركوبه).
فالابتهاج يغذيه الشيطان ويشحنه بالتجبر والتكبر والتغطرس كما في زيارة الأربعين (وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ)، فالتغطرس من سمات المتكبر المتجبر الذي يتحدى كل شيء فيصل الى مرحلة الطغيان والاستهتار، يتحدى الآخرين بقوته وجاهه وأمواله وسلطته ومنصبه وحزبه حيث تسلبه سكرة الهوى والأنا الطاغية عن رؤية هاوية الموت الذي يسير نحوها مفتخرا ومبتهجا ومتغطرسا.
الفرق بين المؤمن والكافر
وفي مسألة التوبة والابتهاج بالذنب يتبين الفرق بين المؤمن وغيره، فالمؤمن يتعامل مع الذنب بجدية ولايستهين به، بل يتوب لأنه يرى الذنب كبيرا جدا مهما صغر فيرجع عن ذلك لأنه يخاف من العواقب، والعاصي المصر على ذنبه لا يتوب لأنه يرى ذنبه صغيرا وإن كان كبيرا، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(إن المؤمن ليرى ذنبه كأنه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مرَّ على أنفه).
فكل شخص يعرف أنه مذنب ضميره يوخزه على معصيته ويؤكد له أن هذا ذنب، لكن المؤمن يعرف معنى الذنب لذلك يراه كبيرا جدا، لدرجة أنه لا ينام الليل بسبب التفكير الذي يؤرقه عمله، ويؤنبه ضميره، فيستغفر ويتوب حتى يرفع تلك الصخرة عن كاهله، أما بالنسبة إلى العاصي فمهما كان ذنبه كبيرا لا يؤرقه مثل ذبابة مرت على أنفه.
وهذا من أكبر أنواع الجهالة، بل هو قمة الجهالة عند الإنسان العاصي الذي لا يفكر الى أين يؤدي به ذنبه وإلى أين يأخذه.
ما آثار الذنوب على الإنسان؟
قبل أن نتكلم عن آثار الذنوب، لنضرب مثالا على ذلك، الذنوب مثل قطرات المطر، التي إذا تجمعت احتويَت بطريقة سليمة في قنوات معينة وتمضي بسلاسة إلى البحر، أما قطرات المطر إذا لم يتم احتواؤها في قنوات تصبح سيلا هادرا يدمر كل شيء يكون أمامه، كما نرى في السيول والفيضانات التي تجتاح القرى والمدن مخلفة كوارث هائلة، وبعض القطرات قد تتحول الى تسونامي هائل في البحر.
الذنوب التي لا تُحتوى ولا يستغفر عنها الإنسان ولا يرجع عنها تكون عواقبها خطيرة جدا، قد تدمر إنسانا أو أسرة أو مجتمعا، بل قد تهلك أمة كاملة، أو تستأصل حضارة، فالحضارات تسقط بسبب الذنوب، وهو ما يعبر عنه بفلسفة التأريخ في القرآن الكريم بقانون الاضمحلال، فالحضارة التي ترتكب الذنوب ولا ترجع عنها تصل إلى مرحلة النهاية وتنهار حيث تبلغ أجلها المحتوم:
لماذا لا يرى الإنسان العواقب؟
هذا الإنسان الذي يدعي بأنه متقي، يصلي ويصوم ويلتزم بالعبادات لكن في مرحلة معينة ينفلت بسبب مال أو سلطة او جاه او شهوة فيتمرد على الله سبحانه وتعالى، لماذا لا يفكر بالعواقب؟، ألا يفكر قليلا أن لكل شيء أجلا وينتهي به، وفي واقع الامر هو في جهالة تامة، لأنه إذا كانت عنده معرفة وعلم وتقوى، لأدرك العواقب وتحذر من الوقوع في مخاطرها، حيث يكون عقله أقوى فلا تجنح به غرائزه، أما الذي تكون غرائزه أقوى من عقله، فسوف تجنح به وتقوده نحو المنحدر والوقوع في الهاوية السحيقة.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (لا تستصغرن سيئة تعمل بها، فإنك تراها حيث تسوؤك).
ربما لا ترى السيئة الآن، أو تراها صغيرة ولكنك تراها حين تتجسد كعاقبة لسوء عمله، فمن توخزه إبرة صغيرة قد لا يعبأ بها، لأنها صغيرة ولا يحس بها، لكن هذه الوخزة قد يكون فيها فايروس فتلتهب إلى أن يحدث في جسمه التهاب كامل، فتقضي عليه.



