قطر بين صدمة الواقع والرهان على الوهم

بقلم: د. هاني الروسان..
كنت سأكتب مقالا أعلق فيه على رد الفعل الامريكي تجاه القصف الاسرائيلي للعاصمة القطرية الدوحة غير أن ما تضمنه بيان الخارجية القطرية وما جاء على لسان وزير الخارجية من بعض العبارات مثل استخدامه عبارة “الغادر” التي تعبر عن مستويات من صدمة الرهان على الوهم، جعلني اتجاوز الحديث عن رد الفعل الامريكي واتوقف عند تعبير الهجوم الغادر للوقوف على الدلالات السياسية لمثل هذا التعبير الذي يكشف عن مدى وطبيعة الرهانات القطرية من ناحية وعن حجم السذاجة السياسية في السياسة القطرية وارتكانها على صداقة الولايات المتحدة.
فقد جاء بيان الخارجية القطرية تعليقًا على القصف الإسرائيلي للدوحة وتعليقات وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني على الحدث محمّلًا بعبارات مألوفة في الخطاب الدبلوماسي مثل “انتهاك السيادة”، “خرق القانون الدولي”، و”مخالفة ميثاق الأمم المتحدة”. غير أنّ اللافت في كل ذلك كان توصيف وزير الخارجية للهجوم بأنه “غادر”. هذه الكلمة، على بساطتها الظاهرية، ليست مجرد تعبير عاطفي طارئ، بل هي مفتاح لقراءة عميقة في بنية الخطاب السياسي القطري، تكشف من جهة عن طبيعة الرهانات التي تعقدها الدوحة، ومن جهة أخرى عن هشاشة المقاربة التي تعتمدها في مواجهة واقع إقليمي ودولي شديد التعقيد.
فمن الناحية الُلغوية، يحمل الخطاب القطري ازدواجية لافتة: فهو من جهة يوظف المعجم القانوني الذي يمنح القول طابعًا عقلانيًا ورسميًا، ومن جهة ثانية يجنح إلى معجم وجداني انفعالي يستحضر صورة الضحية المصدومة من خيانة غير متوقعة. “الغدر” هنا لا يضيف معلومة جديدة إلى توصيف الحدث بقدر ما يضفي قيمة أخلاقية، فينزلق البيان من مستوى التقرير إلى مستوى التقييم. وهذا التحول ليس بريئًا، بل يكشف أن الدوحة، في لحظة الأزمة، فضّلت مخاطبة الوجدان الجمعي العربي والإسلامي لاستدرار عطفه في لحظة خذلان وفقا لفهمها طبيعة علاقاتها مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة، قبل مخاطبة الفاعلين الدوليين. فالغدر في الثقافة العربية ليس مجرد خديعة، بل هو وصمة عار مرتبطة بنقض العهود والمواثيق، ما يجعله حمّالًا لشحنة دلالية قوية توظَّف لاستدرار التعاطف والشجب.
لكن حين ننظر إلى العبارة من زاوية تداولية، أي من حيث مقاصدها الاتصالية، فإنها تنطوي على مفارقة أعمق. فالغدر لا يكون إلا من طرف يُنتظر منه التزام أو مراعاة، لا من عدو معلن. هذا يوحي بأن قطر كانت تراهن، ولو ضمنيًا، على أن علاقتها بالولايات المتحدة ستمنع إسرائيل من استهدافها بشكل مباشر، أو على الأقل ستجعلها في مأمن من صدمات بهذا الحجم. وبالتالي، فإن الصدمة المعلنة لم تكن من إسرائيل وحدها، بل من الحليف الأمريكي الذي لم يبدِ سوى رد فعل بارد، لم يرتقِ إلى مستوى حماية “الصديق”. وهكذا يتحول “الغدر” إلى شهادة غير مباشرة على وهم الرهان على المظلة الأمريكية.
إنّ الجمع بين مفردات القانون الدولي من ناحية، ومفردات الوجدان والعاطفة من ناحية أخرى، يعكس في العمق ارتباكًا في الرؤية القطرية. فهي تريد أن تؤكد لنفسها وللعالم أنها دولة ذات سيادة تستند إلى الشرعية الدولية، لكنها في الآن ذاته تتحدث بلسان الضحية التي فوجئت بخيانة غير متوقعة. والنتيجة خطاب متردد، يتأرجح بين العقلانية والوجدانية، بين صورة الدولة الفاعلة وصورة الدولة المصدومة.
الأهم من ذلك أنّ اختيار “الغدر” بوصفه التوصيف الأبرز للهجوم يحيل إلى مأزق أكبر، فقطر لا تزال تتعامل مع العلاقات الدولية بمنطق الوفاء والخذلان، لا بمنطق القوة والمصلحة. فهي تستحضر صورة الصديق الذي نكث بالعهد، في حين أنّ السياسة الواقعية لا تعترف بمثل هذه الاعتبارات، بل تقوم على حسابات دقيقة للمصالح والاستراتيجيات. ومن هنا، فإن الخطاب الذي بدا للوهلة الأولى إدانة قوية لإسرائيل، يكشف في العمق عن انكشاف بنية السياسة القطرية أمام واقع دولي لا مكان فيه للأوهام الأخلاقية.
وبذلك يمكن القول إن “الهجوم الغادر” ليس مجرد وصف عابر، بل هو علامة لغوية كاشفة عن أزمة أوسع، أزمة دولة صغيرة راهنت أكثر مما ينبغي على صداقة الولايات المتحدة، فوجدت نفسها وجها لوجه مع حقيقة أنّ واشنطن لن تضحي بتحالفها العضوي مع إسرائيل من أجلها. في النهاية، ما جرى لم يكن غدرًا بقدر ما كان تذكيرًا قاسيًا بحدود السياسة الواقعية، وبأن الشرعية الدولية لا تحمي من الصواريخ، وأن التحالفات لا تُبنى على العواطف، بل على موازين القوة وحدها.



