الأردن على خط النار بين الضم الزاحف وشرعنة الإقليم

د. ميساء المصري..
يُقال إنّ السياسة والدين، إذا اجتمعا وكان بينهما سوء استخدام، فذاك طريقٌ مباشر إلى الجنون الجماعي. فكيف إذا استُخدِما معًا كسلاحين في يد متطرّف؟ هذا تمامًا ما تهمس به شوارع تل أبيب، لا ما يُذاع في نشرات الأخبار.. هناك، حيث يهتف الغاضبون في وجه نتنياهو: هل فقدت عقلك؟ أم أنك تجرّ الأمة بأسرها إلى الهاوية باسم الرب والدولة؟!
وما بين العقل والجنون، في لحظة فارقة تتشابك فيها الجغرافيا بالتأريخ، ويتداخل فيها القانون بالدم، تتقدم إسرائيل خطوة أخرى في مشروعها الكولونيالي العميق لتكريس واقع الإحتلال وتحويله إلى سيادة قانونية.
تصويت الكنيست الإسرائيلي لصالح مشروع ضم أجزاء من الضفة الغربية ليس سوى الإعلان الرسمي عن واقع بات مفروضًا منذ سنوات، تم تثبيته ميدانيًا عبر توسع استيطاني ممنهج وتفتيت ديمغرافي وتصفية بطيئة لكل مظاهر الكيان الفلسطيني. ما يحدث اليوم ليس مسألة خلاف حدودي، بل تفكيك متدرج ومقصود للهوية السياسية الفلسطينية، وإعادة توزيع التفكيك على الإقليم، تحديدًا نحو الأردن الذي يجد نفسه، من جديد، في قلب معادلة لم يخترْها، لكنها تخترق أمنه وحدوده ومكانته التأريخية.
وهنا يتردد السؤال بدوائر القرار في عمّان، دون إجابة حاسمة: إلى متى يمكن للأردن أن يظل في موقع المراقب المتوتر بينما ترسم إسرائيل خريطة جديدة على أنقاض الضفة؟، خريطة لا مكان فيها لكيان فلسطيني، بل تضع المملكة أمام خيارات مفصلية يصعب التهرب منها.
قرار الكنيست، رغم أنه غير ملزم قانونيًا، يُفهم داخل المنظومة الصهيونية باعتباره تفويضًا شعبويًا لمشروع الضم الكامل، وتأكيدًا على أن مسار التسوية قد انتهى تمامًا، وأن الدولة الفلسطينية باتت حلمًا مترفًا لا أكثر.
أخطر ما في هذا التحول هو أنه لا يأتي كردة فعل عابرة على حدث مثل السابع من أكتوبر، بل هو تتويج لتراكم طويل بدأ منذ خطة ألون عام 1967، وتواصل عبر مخططات دروبلس وشارون وسموتريتش ونتنياهو حتى عام 2025، وكلها تشترك في استراتيجيات السيطرة الكاملة، وفرض المعازل، ونقل العبء السكاني والإنساني إلى خارج حدود إسرائيل الكبرى.
وفي هذا السياق، لم تعد الضفة مجرد جغرافيا محتلة، بل منصة لمشروع تطهير سياسي وديمغرافي يجري تحت أنظار العالم، وبقبول ضمني من عواصم عربية وإقليمية وجدت في الصمت طريقًا لتأجيل المواجهة.
ما لا يُقال علنًا للملأ، هو أن القرار الذي صوّت له 71 نائبًا في الكنيست لم يكن مجرد نصر لحكومة يمينية، بل تعبير عن توافق داخلي إسرائيلي واسع، بما في ذلك داخل تيارات معارضة، على استحالة إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، وعلى وجوب الحسم لصالح الضم مهما كان الثمن. الأخطر من ذلك هو التغير في حسابات الداخل الإسرائيلي نفسه، حيث أصبح من المقبول سياسيًا بل مرغوبًا تفكيك السلطة الفلسطينية، أو تركها تنهار ذاتيًا، تمهيدًا لتحميل الأردن عبء (ما بعد السلطة)، سواء عبر سيناريو كونفدرالي مُقنّع، أو عبر إدارة أمنية وإنسانية لما يتبقى من السكان الفلسطينيين في الضفة.
في هذا السياق، تبرز تقارير أمنية مسرّبة تشير إلى محادثات (صامتة) تجريها أطراف إسرائيلية مع أطراف غربية حول احتمالات تفويض الأردن بدور إداري في الضفة في حال انزلاق الوضع إلى فراغ شامل. وهو ما تعتبره عمّان خطًا أحمر، لكنه خط يبدو أنه غير محصن من التآكل.
التهديد لا يقف عند حدود المشروع الصهيوني، بل يتصل مباشرة بالتحولات الإقليمية. بعد اتفاقيات إبراهام التي يصر ترامب على إبرامها، وتراجع الدعم العربي الفلسطيني وتآكل شعب غزة مع تآكل فكرة الحل القائم على الدولتين، باتت إسرائيل أكثر جرأة في فرض أمر واقع جديد. وفي هذا الأمر الواقع، لم تعد القدس مجرد مدينة محتلة، بل جبهة مفتوحة على معركة محاولات إسرائيل تفريغ هذه الرمزية من مضمونها، أو إعادة تعريفها كرمزية ثقافية فقط دون أبعاد سياسية، تُعد تهديدًا استراتيجيًا مباشرًا للدور الأردني، لا يقل عن تهديد الضم ذاته.
ما يدور تحت الطاولة لا يُبشّر بتحول فوري في موقف الأردن، لكن هناك مؤشرات على مراجعة جذرية قيد التشكّل، تشمل خيارات لم تكن مطروحة سابقًا، من بينها تجميد بعض بنود اتفاقية وادي عربة، والتحرك القانوني في محكمة العدل الدولية، وتحالف أوسع مع باريس وبرلين والجزائر والدوحة لفرملة التسرع الإسرائيلي، وربما الأهم من ذلك، الدفع نحو بناء وحدة فلسطينية حقيقية على الأرض، لأن انهيار السلطة بالكامل سيكون كارثة أمنية وإنسانية لا يستطيع الأردن احتواءها منفردًا.
في نهاية المطاف، لا يتعلق الأمر بمستقبل فلسطين فقط، بل بمستقبل الأردن نفسه، فبين الضفة والحدود الشرقية تأريخ واحد، ومصير مشترك. وإن كان الكنيست قد صوّت للضم، فإن على عمان أن تصوّت الآن لمستقبلها.. فهل تفعل؟ .



