Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اراء

ترامبلاند: كيف اندفعت أميركا نحو التجريف والانهيار

بقلم: مازن النجار..
من السمات المتتابعة المتوالية لانهيار الولايات المتحدة، بخاصة تدهور الدولة القومية وصول المصفوفة الدينية إلى”نقطة الصفر” والإفلاس، تراجع التصنيع والإنتاج، زيادة حادة في معدلات الوفيات تتجاوز بكثير معدلات روسيا، تفاقم حالات الانتحار وجرائم القتل، وسيادة العدمية الإمبراطورية التي يُعبّر عنها أميركياً هوس مزمن بالحروب الأبدية. وجاء عهد دونالد ترامب ليفاقم هذه الظواهر، ويبرز تمظهرها في سياسات إدارته الراهنة وتشريعاتها.
تتعدد التفسيرات والتأويلات، لكن الكاتب الأميركي كريس هيدجز يعتقد أن انقلاب الشركات الكبرى وانهيار الديمقراطية الأميركية قد بدأ قبل ترامب بزمن طويل. إنه ببساطة يُخمد ما تبقى منها.
تقويض ركائز المجتمع المفتوح
فالفاشيون من اليمين الديني والأوليغاركيين، الذين يُناولون دونالد ترامب قلمه ويُعدّون أوامره التنفيذية، لا يُحاربون الدولة العميقة، أو اليسار الراديكالي، أو يحموننا من “أعداء السامية”. إنهم يُحاربون الحقائق المُثبتة، وسيادة القانون، والشفافية والمساءلة التي لا تتحقق إلا بصحافة حرة، والحق في الاختلاف، وثقافة نابضة بالحياة، والفصل بين السلطات، والقضاء المستقل.
فالركائز الأساسية للمجتمع المفتوح، كما فصّلها هيدجز في كتابه “موت الطبقة الليبرالية” (2010)، قد تدهورت قبل ترامب بوقت طويل. فالصحافة والبث العام، والأوساط الأكاديمية، والحزب الديمقراطي، وثقافة شركات مُبتذلة، وقضاء يخدم المليارديرات، وكونغرس اشترته جماعات الضغط، فُرِغت من محتواها ويسهل استهدافها. وقلة تريد النهوض دفاعاً عنها. لقد باعونا.
“فقدان الطبقة الليبرالية يخلق فراغاً في السلطة يملؤه المضاربون، والمتربحون من الحروب، وعصابات الإجرام، والقتلة، وغالباً ما يقودهم ديماغوجيون كاريزميون”، ويفتح “فقدان الطبقة الليبرالية الباب لحركات شمولية تتصدر السخرية والاستهزاء بالطبقة الليبرالية والقيم التي تزعم الدفاع عنها. فوعود هذه الحركات خيالية وغير واقعية، لكن انتقاداتها للطبقة الليبرالية ترتكز على الحقيقة”.

تدهور التعليم الجامعي
تُعطي وسائل الإعلام أولوية الوصول إلى الأقوياء قبل الحقيقة. فضخّمت الأكاذيب والدعاية للدفع نحو غزو العراق. وأشادت بأسواق المال، وأكدت أنه من الحكمة أن نعهد بمدخرات حياتنا إلى نظام مالي يديره مضاربون ولصوص، فأُهدرت مدخراتنا. وغذّت الجمهور بأكاذيب حول تدخل روسيا بالانتخابات، وخضعت تماماً للوبي الإسرائيلي، فشوّهت تغطية الإبادة الجماعية واحتجاجات الجامعات لشيطنة الفلسطينيين والمسلمين والمتظاهرين. ترقص على أنغام الشركات المعلنة والراعية. تحجب قطاعات سكانية كاملة، يجب أن يكون بؤسها ومظالمها محور تركيز رئيسي للصحافة.
تحولت الجامعات إلى شركات! كبار الإداريين، ذوو ماجستير إدارة الأعمال، بخبرة ضئيلة أو معدومة في التعليم العالي، بجانب مدربين رياضيين لديهم القدرة على كسب أموال للجامعات، ينالون رواتب عالية بمئات آلاف الدولارات، ويتقاضى المدربون المتميزون ورؤساء الجامعات ملايين الدولارات.
لا تتجاوز الوظائف الثابتة لأعضاء هيئة التدريس حالياً نسبة 10%، ونحو نصفهم موظفون مؤقتون بدوام جزئي أو مساعدون. وخُمسهم يعمل بدوام كامل، من دون تثبيت وظيفي. أصبحت الجامعات، بتقليصها الجذري للوظائف الثابتة والأجور المناسبة، امتداداً لاقتصاد العمل الحر. ويُضطر الأساتذة من خارج هيئة التدريس والخريجون إلى طلب رعاية صحية حكومية مخصصة للفقراء، أو العمل بوظائف تدريس إضافية في كليات أخرى، أو قيادة سيارات أجرة، أو العمل صرافين، أو توصيل الطعام، أو تمشية الكلاب، أو رعاية المنازل، أو خدمة الطاولات وتقديم المشروبات، أو العيش مع أربعة أو ستة أشخاص في شقة، أو اللجوء إلى أريكة صديق.
الرأسمالية محركاً للتقدم البشري
يستدعي هيدجز إشارة إيرفينغ هاو في مقال بعنوان “عصر التوافق هذا”، 1954، فإن “فكرة المهنة الفكرية -حياة مُكرسة لقيم لا تُحققها حضارة تجارية- فقدت جاذبيتها تدريجياً. وهذا، وليس التخلي عن برنامج مُعين، يُشكل هزيمتنا”. يكتب هاو أن الاعتقاد بأن الرأسمالية هي المحرك المُحصّن للتقدم البشري “يُروّج له عبر جميع وسائل الاتصال: الدعاية الرسمية، والإعلانات المؤسسية، والكتابات الأكاديمية لأشخاص كانوا، قبل سنوات، من أبرز مُعارضيها”.
أبرز هاو أن “الضعفاء حقاً هم أولئك المثقفون – الواقعيون الجدد- الذين يلتصقون بمقاعد السلطة، فيتخلون عن حرية التعبير من دون اكتساب أي أهمية سياسية”. وأضاف: “لأنه من الأمور الحاسمة في تاريخ المثقفين الأميركيين في العقود القليلة الماضية -وفي علاقة “الثروة” بـ”الفكر”- أنهم كلما امتصتهم مؤسسات المجتمع المعتمدة، فإنهم لا يفقدون تمردهم التقليدي فحسب، بل يتوقفون عن العمل كمثقفين”.

روّج الحزبان الحاكمان لخدعة النيوليبرالية لتفكيك الصناعة الأميركية، وفرض تقشف قاس، واستئصال حريات التنظيم، وإلغاء حماية الجمهور من الاستغلال. ومكّنا الشركات من النهب وترسيخ ثرواتها وسلطتها، وصعود الرأسمالية الاحتكارية وأعلى مستويات عدم المساواة بالدخل والثروة في التاريخ الأميركي.
الهاوية المنصهرة
بحسب هيدجز، يرى فريدريك نيتشه في كتابه “ما وراء الخير والشر” أن قلة قليلة من الناس تمتلك الشجاعة الكافية للنظر في “الهاوية المنصهرة” للواقع الإنساني. يتجاهل معظمهم هذه الهاوية عمداً. أما الفنانون والفلاسفة، بالنسبة إلى نيتشه، فيستهلكهم فضول لا يشبع، وسعي حثيثٌ وراء الحقيقة ورغبةٌ في المعنى. يغامرون بالنزول إلى أعماق هذه الهاوية المنصهرة. يقتربون قدر استطاعتهم قبل أن تدفعهم ألسنة اللهب بعيداً. كتب نيتشه أن هذه النزاهة الفكرية والأخلاقية لها ثمن. أولئك الذين تحرقهم نار الواقع يصبحون “أطفالًا محترقين”، أيتاماً أبديين.
الثقافة في ديمقراطية فاعلة تكون جذرية وتحوّلية. إنها تُعبّر عما يكمن في أعماقنا. تُضفي كلمات على واقعنا. تُشعرنا كما تُبَصِّرنا. تُمكّننا من التعاطف مع المختلفين أو المضطهَدين. تكشف ما يحدث حولنا. تُكرّم الغموض.
كتب جيمس بالدوين: “إن الدور الدقيق للفنان، إذاً، هو إضاءة ذلك الظلام، وتوهج الطرق عبر الغابة الشاسعة، حتى لا نغفل، في كل ما نفعله، عن الهدف، وهو في نهاية المطاف، جعل العالم مسكناً أكثر إنسانية”.
تُشنّ الحرب على البحث الفكري المستقل والفن والثقافة لمنعنا من النظر في الأعماق، ومن جعل العالم “مسكناً أكثر إنسانية”. لقد أُسكت “الأشخاص المحترقون” أو هُمِّشوا. وحُظر نحو 16 ألف كتاب في المدارس والمكتبات قبل تولي ترامب منصبه، والحظر يتسارع بتزايد عدد الكتب المحذوفة. تحتفي الثقافة في الدول الاستبدادية بماضٍ مثالي لم يكن موجوداً قط، وحاضرٍ مُضلّلٍ ذاتياً.
من شمولية مقلوبة إلى ديكتاتورية
يتموَّل سياسيون في الحزبين الحاكمين من أموالٍ مشبوهة يُقدِّمها مليارديرات وشركات. هؤلاء السياسيون، في نظام يُشرّع الرشوة، يُنفِّذون في الكونغرس أوامر مموّليهم. وقد وصف الفيلسوف السياسي، شيلدون وولين، هذا الشكل من الحكم بـ”الشمولية المقلوبة”.
لا تزال الشمولية المقلوبة تحتفظ بمؤسسات الديمقراطية الرأسمالية القديمة ورموزها وأيقوناتها ولغتها، لكن الشركات الكبرى استولت داخلياً على رافعات السلطة لتحقيق أرباح وسيطرة سياسية. وتستخدم النظام القانوني الدولي لنهب موارد العالم النامي، فتطيح بحكومات تتحدى هيمنة شركات تعطي الأولوية للربح على العدالة، وتُضعف قوانين العمل، وتنقض حقوق العمال.
بحسب هيدجز، سيمثل نسف إدارة ترامب لهذه المؤسسات المتهالكة الفاسدة نهاية التجربة الأميركية، والتحوّل من الشمولية المقلوبة إلى الديكتاتورية. وسيُبشِر بعالم شركات بائس، يُشبه ولكن أشد قسوة، رأسمالية شمولية بمراقبة حكومية شاملة، ورقابة قاسية، وطبقة حاكمة غير منتخبة وغير خاضعة للمساءلة، وسحق الحركات الشعبية، بما فيها اتحادات العمال. أي انحدار لعالم تفكير سحري يُميز أنظمة الاستبداد، عالمٌ لا تمتّ فيه اللغة المستخدمة لوصف الذات والمجتمع بصلة للواقع.
أفاعي ترامب تُخمد ما تبقى
ستكون عبادة “القائد العظيم” محور المشروع. وتجلّى الذل المطلق أمام القائد العظيم في احتفال ترامب بأول مئة يوم لإدارته، فارتدى أعضاؤها اللون الأزرق الداكن وقبعات بيسبول حمراء كُتب عليها “خليج أميركا”. وفي تملّق نموذجي، قالت وزيرة العدل بام بوندي: “سيدي الرئيس، لقد فاقت أيام رئاستك المئة الأولى أي رئاسة أخرى في هذا البلد على الإطلاق. لم أرَ شيئاً كهذا من قبل، شكراً لك”.
سينال ترامب استعراضاً عسكرياً في عيد ميلاده، وعمودين لعَلمين مرتفعين 100 قدم في حديقة البيت الأبيض، وربما، إذا أُقرت مشاريع القوانين المقترحة في الكونغرس، سيُنقش وجهه على جبل راشمور، بجانب جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، وأبراهام لينكولن، وثيودور روزفلت. ويصبح يوم ميلاده عطلة فيدرالية، وتُطبع صورته على أوراق نقدية جديدة من فئة 250 دولاراً، وستعاد تسمية مطار دالاس الدولي في واشنطن، مطار دونالد ترامب الدولي. وسيبني حديقته القومية لأبطال أميركا. ويسعى لإلغاء التعديل الدستوري 22 للسماح له بولاية ثالثة، رئيساً مدى الحياة.
هناك كلمة يُوصف بها من فعلوا هذا: الخونة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى