Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اراء

جولة حول فن الإبادة العربية المعاصرة

بقلم: د. لينا الطبال..

هل سبق أن وقفتم أمام لوحة كوارث الحروب Los Desastres de la Guerra لفرانسيسكو غويا؟ هي سلسلة من اثنين وثمانين نقشاً فنياً، لا مكان فيها للرحمة، تروي ويلات الحروب والمجاعة والموت، تخط العنف والتعذيب، وتقطيع الأشلاء والقتل، هنا جثث بلا هوية بلا رؤوس أو أطراف، تعذيب بلا مبرر، ودماء سائلة كأمطار غزيرة، في كل زاوية تمزيق لأجساد واشلاء تتناثر، الكثير من الأشلاء، في تلك التحفة الفنية، لا يوجد أي أمل، فقط رعب، وحشية وتجرد من الإنسانية.

ماذا لو أخبرتكم أن هذا العمل الفني هو أكثر هدوءاً من الواقع الذي نعيشه اليوم؟ هذه الرسومات هي أقل اضطراب مقارنة بما يحدث الآن في واقعنا العربي

لا، ليس هذا مقال عن الحرب، ولا هو استعراض للفن.

انا فقط أفتح لكم نافذة ضيقة، بالكاد تتسع لعين واحدة على عالمنا الحقيقي: عالم الإبادة: تفضلوا معي.

نُباد ونحن نواصل حياتنا الروتينية المملة، ونعد حلويات الأفراح، وكعك العيد و”دبي شوكولاته”، ونرسل دعوات إلكترونية لمناسبات تافهة. نسخر من بعضنا البعض، نحن الضحايا الذين أصبحوا كوميديين بالفطرة …قد نضحك كي لا ننهار، نكسر الحصار بالنكتة ونتابع أحدث صيحات الموضة ومسلسلات نتفليكس ايضا.

في ذات الوقت يموت طفل في غزة كل سبع دقائق أنا لا أقدم لك مقالا حزينا، هو شيء أثقل من الحزن.. أحاول تذكيرك أن نهاية العالم تحدث الآن، على مرأى منك، بإمكانك أن تصرخ، مثل تلك الصرخة المشتعلة في لوحة مونك The Scream أو ببساطة، أن تراقب بصمت، كما تفعل دائما.

“الإسرائيليون لا يريدون أن يروا قتلانا” (أي قتلى العرب)، هكذا افتتحت جريدة هآريتس مقالها اليومي. نعم الإسرائيليون لا يريدون ان يروا معاناة شعبنا… لا يريدون رؤية الدم حتى لا ترتبك روايتهم، وتخدش الأسطورة التي صنعوها منذ 1948، عندما قرروا ان يحتكروا دور الضحية، لأنهم ضحايا أبديون حسب الرواية الصهيونية، ولا مكان في الخيال الجماعي الإسرائيلي لضحايا غيرهم. هكذا اذن.

في 5 أيار (حسب التقويم العبري)، يحتفل الإسرائيليون بما يسمونه “عيد الاستقلال” استقلالهم السابع والسبعين… نفس التأريخ الذي نحصي فيه، نحن، نكبتنا السابعة والسبعين أيضا.

هم لا يريدون أن يروا طفلا فلسطينيا واحدا في هذا اليوم، لا حيا ولا ميتا

لكنهم قد يصادفون أشلاء أطفال قد تناثرت على حافة شاشة هاتف، أو عبرت فجأة أمام “آيباد” طفل إسرائيلي يتعلم عن نشأة الدولة وبطولات الجيش الأخلاقي… مجرد رؤية هذا المشهد قد توقظ شيئا لا مكان له في منظومة أمنهم القومي: عقدة الذنب.

الذنب يلوث الصفاء الأخلاقي للدبابة، وقد يزعج طيار الـF-16  في لحظة ضغط الزر، ويربك الذكاء الاصطناعي.

الذنب شعور رجعي، غير مبرمج في بروتوكولات الحروب الحديثة، ويشوش العدسة الحرارية عندما ترصد قدمين صغيرتين وجسداً وتيشيرت مقاس عشر سنوات… الذنب قد يهدد اتخاذ القرار.

سلوترديك يذكرنا ان الطفل هو التجسيد النقي لهذا العالم وحين يُقتل، تنكسر الحلقة الأولى من الانسانية. تنفجر الفقاعة قبل أن تنضج. وتولد فينا فقاعة أخرى: فقاعة ذنب كوني، لا تنفجر أبدا. الطفل الفلسطيني حين يستهدف يخرب وهم الطهارة ويصبح كل صاروخ بعدها ذنباً ومسؤولية…عن هذا الذنب أحدثك… وهذا الذنب يخاف منه الإسرائيليون والعالم.. لأنه ذنب لا يُمحى.

لكن كما تعلمون فإسرائيل بارعة في الترميم، ترمم أساطيرها بنفس الدقة التي تعيد فيها صيانة دباباتها وطائراتها بعد كل حرب، تعالج المجازر وتطمس الدماء بتصريحات عن “الحق في الدفاع عن النفس”.

يستمرون في تبرير حرب أصبحت منذ فترة طويلة، نوبة جنون وانتقام، ويؤكدون انهم على حق، لأن من يَقتل هو دائما المنتصر، ومن يُقتل هو دائما الضحية، كلام منطقي، لما لا؟.

الإعلام يواصل تقديم نفس السردية، تقارير خالية من أي دم، ويطمئن القتلة: لا شيء سيُعرض على الشاشة يدينكم، لن يصل إلى الجمهور سوى مشهد قوالب الكاتو بالفريز.

يمكن للإعلام الإسرائيلي أن يستمر في الكذب، ان لا يرفع صوته حتى أمام انفجار أحشاء طفل في المواصي أو رفح أو دير البلح… يمكنه أن يطمئن جمهوره: لا داعٍ للقلق، لا شيء يحدث هناك سوى بعض “العمليات” و”بعض الردود”… ولا بأس إذا تجاوز عدد القتلى 52 ألف، ولا بأس إذا كان من بينهم 15 ألف طفل… لكن لا يجب ان يفتح الإسرائيليون أعينهم على ما يتم عمله باسمهم، أو بأيدي أبنائهم وبناتهم.. يمكنهم أيضا، تفعيل كل آليات الدفاع النفسي، لكنهم يعرفون، في قرارة أكاذيبهم، شيئاً لا يمكن تغييره: إسرائيل هي التي قتلتهم.

هكذا، دون عناء، حصلنا على الإجابة كيف يمكن ذبح 52 ألف مدني في غزة، دعونا لا نسميه بالجحيم، لنلتزم بعبارة “تصنيع التدمير الدقيق” المصطلح العطر الذي اخترعه “أفيف كوخافي”، الرئيس الأسبق لهيأة أركان الجيش الإسرائيلي.

وفعلا في غزة يتم قتل المدنيين بشكل جماعي تحت ذرائع “التدمير الدقيق”، وبكلمات اخرى هو “تجميل” القتل الجماعي من خلال لغة تكنولوجيا متقدمة.

لا شيء سيتغير، سيقال ان كل شيء كان “دقيقاً”، وان الجيش “أنذرهم”، وإن المبنى “كان يحتوي على عناصر إرهابية”. سيجري تقديم المجزرة بوجه ناعم، كوجه أبو مازن، رئيس السلطة الفلسطينية، عندما يصافح مسؤولا اسرائيليا في المؤتمر. وجهه الهادئ الذي لا يظهر عليه أدنى تعبير عن الجرح الفلسطيني، وجهه الناعم الذي يحاول إخفاء ما لا يمكن إخفاؤه: العار والموافقة الضمنية على استمرار القتل والاحتلال.

حياتنا، بكل بساطة، لا تساوي شيئاً باهتا ومعقدا، ولا تترك أي أثر. خط صغير قد يختصر كل شيء، ويُمحى بممحاة رخيصة في لحظة، هل تستحق كل هذه الحروب، هذا الخراب، هذا العذاب… مجرد خط؟ من أجل ماذا؟ من أجل تجربة؟ من أجل أمل؟ وإذا كان الأمل في متناول اليد، فلماذا لا نمنحه للآخرين؟!.

 سي تومبلاي، فنان مفضل لديَّ، يظن أنه يمكنه رسم النهاية في لوحته Blooming السعادة كما يرى، هي ألوان من الحرير، هي لا تعبر عن الدم. الأحمر في اللوحة هو الحب، هو الفرح المتناثر بين الجنون والحروب. وهكذا نعود إلى السؤال: هل يمكن للون واحد أن يغير هذا الواقع؟ ربما، لكنه بالتأكيد لا يستطيع أن يخلصنا من الخراب الذي ابتلعنا.

الألوان لا تكذب، والأحمر يصر على البقاء في أوطاننا، يطل من كل صورة، من صور الدم وصور الفرح، يصرخ في وجوهنا، يلطخ الشاشة ويسيل من قلوبنا

لا توجد لوحة في أي متحف على وجه الأرض قادرة على مضاهاة الفظاعة التي نعيشها… فظاعة ما نراه هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى