اخر الأخباراوراق المراقب

شهر رمضان شهر ارتباط الأرض بالسّماء

الشيخ الحسين أحمد كريمو

مقدمة عقائدية

الله سبحانه خلق الإنسان ولم يتركه سدى بل كرَّمه وفضَّله على كثير من المخلوقات الأخرى، فوهبه العقل ليكون ميزاناً داخلياً فيه ليقيس به المسائل والأشياء، ثم أعطاه الإرادة ليفعل ويترك بحرية ومشيئة منه، وذلك ليكون مسؤولاً عن نفسه ومحاسباً على أعماله وتصرفاته، كما أنه فضَّله بأفضل تفضيل وأكمل كرامة حينما ربطه بالسماء مباشرة، ولم يتركه يعيش على هواه في هذه الدنيا كبقية الحيوانات.

 ومسألة ربط الإنسان بالسماء هي مسألة أساسية في هذا الكون، وهي من الأصول التي لا يمكن الاستغناء عنها منذ آدم الأول وهبوطه إلى هذه الأرض نبياً من الصالحين، مقارناً بإبليس الغوي الرَّجيم، فالنبوَّة والرِّسالة عندما تطوَّر الإنسان وانتقل من مرحلة البداوة الأولى التي كانت أشبه بحياة الحيوان إلى نوع من الاستقرار والحياة الاجتماعية الحضرية فانتقلت رسالة السماء من النبوة الضيِّقة إلى الرسالة الموسَّعة على يدي رسول الله نوح (ع) الذي عاش طويلاً ربما ثلاثة آلاف عام يدعو قومه إلى عبادة الله ويعيدهم إلى ارتباطهم بالسماء وأن يفك ارتباطهم بالشيطان اللعين الرجيم وعبادة أشياء الأرض كالأصنام والأوثان، حتى أن الله أبادهم عن بكرة أبيهم بالطوفان المعروف ليطهِّر الأرض منهم وينشئ من بعدهم قوماً آخرين يوثقون ارتباطهم بالسماء لا سيما بالعبادة الخالصة والمخلصة لله تعالى رب الأرض والسماء وما بينهما الواحد القهار.

الكتب السماوية

والرابطة الفعلية بين الإنسان والرب، وبين السماء والأرض، لها ركنان أساسيان مترابطان ومتكاملان لا ينفصلان ولا يتعارضان، وكل منهما طرف من الأعلى والطرف الآخر من الأدنى، وهما ما عبَّر عنهما مراراً وتكراراً الرسول الأعظم (ص) في أحاديثه وأقواله الأخيرة في حجة الوداع وما بعدها والمعروف بحديث الثقلين المتواتر في هذه الأمة، وله ألفاظ مختلفة، لأنه كان في أماكن وظروف مختلفة ولكن الجوهر واحد، قال (ص): (وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُما كِتَابُ اللهِ، فيه الهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا به، فَحَثَّ علَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قالَ: وَأَهْلُ بَيْتي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتي).

وذلك لأن لله حجتين على هذا الإنسان المكرَّم وهما (حُجَّةً ظَاهِرَةً، وَحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ، وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ)، فيجب أن يتكاملا ويترابطا مع حجة السماء فكان لا بدَّ من الكتب والصحف المنزلة من الله تعالى على الأنبياء والرسل الكرام ليكون أبلغ في الحجة وألزم بالالتزام، فكان هذا الترابط العضوي الحقيقي بين الكتاب المعصوم، والعترة الطاهرة المعصومة، وذلك لضمان عصمة الأمة من الضلال والانحراف ولذا رسول الله (ص) كان يؤكد ذلك بقوله: (لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)، فنفي الضلال في الأمة يقترن بتلازم الثقلين العظيمين الكتاب كنص صامت من السماء، والعترة الطاهرة ككتاب ناطق من الأرض، وضرورة الكتاب الناطق ألزم من الصامت لأنه يفسره ويؤوله في أرض الواقع وفي حياة الناس، وهو دور أئمة المسلمين من آل محمد (صلوات الله عليهم) الذين تنكَّرت لهم الأمة، وجحدتهم حقهم الذي جعله الله لهم جعلاً تكوينياً وتشريعياً، ولذا ضلوا وزلُّوا وذُلُّوا منذ ذلك اليوم الذي تركوا فيه إمامهم ونصبوا من عند أنفسهم خليفة وحاكماً عليهم لا يعرف الخمسة من الطمسة، ولا يميِّز كوعه من بوعه، فكيف يهديهم وهو بحاجة إلى هداية كما قال ربنا سبحانه: (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

تكامل الإنسان بالثقلين

والإنسان هبط من السماء وجنَّة الحق، إلى الأرض ودنيا الابتلاء والامتحان والعمل، وفيه كل ما يلزمه للتكامل من عقل وإرادة داخلية ورسول وكتاب خارجي، ولم يبقَ عليه إلا الطاعة التي هي الجوهرة التي تميِّزه عن غيره وبها يتفاضل بين أبناء جنسه وخلاصتها التقوى، ولذا جعلها الله المقياس لديه فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/13) فهي المعيار والميزان وليس أي شيء آخر، فلا الأقوى، ولا الأجمل، ولا الأطول ولا الأغنى، بل التقوى هي التي تعطيه الكرامة عند ربه سبحانه حتى ولو كان عبداً زنجياً، والمعصية تذلَّه حتى لو كان سيداً قرشياً كما في الحديث الوارد.

ولا يمكن للإنسان أن يتكامل في حياته ويتسامى في نفسه وروحه بمعزل عن ذلك كله وبمعزل عن الثقلين ولذا أكبر ضربة وُجِّهت لهذا الدين العظيم هي الفصل بين الكتاب النازل من السماء، والتطبيق الواجب في الأرض، ولذا كانت نظرية رجال قريش (حسبنا كتاب الله) هي الإسفين الذي دُقَّ في ظهر هذا الدِّين فراح يتفرَّق إلى فرق مختلفة يجمعها الضلال وتلفها الظلمات لأنها كلها بُنيت على الباطل والتفريق بين الثقلين اللذين لا يفترقان إلا على حوض الكوثر، فالذي ألَّف هذه الأمة منذ البداية تقارن نزول القرآن الحكيم على الرسول الكريم في غار حراء، ويجب أن يستمر بالقرآن الكريم مع الإمام الحاكم وليس الخليفة الظالم، وهذا بالضبط ما يجب أن يحصل في اجتماعهما لتكون الأمة الوسطى وخير أمة أخرجت للناس يقودها إمام ناطق يُطبّق الكتاب الصامت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى