نظرة في الصفات الشخصية للإمام علي عليه السلام

لا يزال باب الحاضر وبوابات المستقبل مفتوحة على مصاريعها لكي تنهل من هذا المنهل الذي قلَّ أو انعدمَ نظيره، لما له من خصوصية في الصفات والشخصية ومعالمها التي تؤكد تفرّد الإمام واختلافه وتميزه عن سواه في جوانب عديدة.
شخصية الإمام علي تتجمع فيها الأضداد، وهذا أمر نادر جدا في الكينونة البشرية، ولكن من أعظم ما تحقق في سِفر الإمام أنه جمع بين الصفات التي لا يمكن جمعها في قلب واحد وروح واحدة، ولكن الإمام جمع مثلا في شخصيته الشجاعة بأعلى درجاتها والرأفة بأعمق مستوياتها، فكيف تم مثل هذا الاجتماع الذي يكاد أن يكون مستحيلا؟، إنها روح العدل التي تشبَّع بها، ونهل منها وتربى عليها، وانغرست في روحه كأنها جزءٌ من كينونته وشخصيته.
ومن صفاته التي ميَّزت شخصيته عن الآخرين، ذلك المُنجَز الخطابي العلمي الكبير، يتقدمه ذلك المؤلَّف العظيم (نهج البلاغة) بمضمونه المتفرد الذي يضم خيرة الخطب والروايات التي لم تتكرر على مر التأريخ، وهذا يؤكد علمية الإمام علي عليه السلام، حيث يصفه معلّمه رسول الله صلى الله عليه وآله بأنه أعلم الناس طرّأ.
التصدي لتيارات التشويه والانحراف
هذه الشهادة العظيمة وحدها تكفي لكي تكرّس المكانة العظمى التي تحتلها شخصية الإمام علي عليه السلام، بالإضافة إلى الأدلة والشواهد التي يمكن أن نستقيها من سيرته سواء تلك السنوات الأربع التي استغرقها حكمه الخاطف، أو رحلته الشاقة والمليئة بالمخاطر لكي يُسهم في الدفاع عن الإسلام والمسلمين ويحقق النصر الخالد على جميع المناهضين.
ولا ننسى أن الصفة العلمية جعلت شخصية الإمام علي في الصف المتقدم ومن المتصدرين لترسيخ العقائد والأحكام الإسلامية، والتصدي لتيارات الانحراف والتشويه التي كان مصدرها المنحرفون المتطرفون في عقائدهم، حيث حاولوا طمس القيم الإسلامية وتشويه التعاليم الإسلامية التي نشرتها الرسالة النبوية، ولهذا كانت علمية الإمام بالمرصاد لهؤلاء البغاة الذين يخشون العلم، ويسعون لتدمير الإسلام، لذا أوقفهم الإمام عند حدّهم بالعلم قبل سواه.
فالإمام علي عليه السلام تعلّم ونهل علميته من النبي صلى الله عليه وآله، وهذا دليل عظيم على تميز الشخصية العلمية للإمام، وعندما يقول الرسول: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، فماذا يعني هذا القول العظيم؟، فمن لا يدخل مدينة العلم من بابها سوف يبقى خارج أسوارها ولا يحصل على شيء من العلوم التي تضج فيها مدرسة الرسول صلى الله عليه وآله.
وأيضا تعلّم الإمام من معلّمه الأول رسول الله صلى الله عليه وآله، ما لم يحصل عليه بشر على الإطلاق، وهو العالم الذي لا يمكن للبشر العادي أن يخترق أسواره، وهناك أيضا بعض الحقائق التي من المُحال الحصول أو الوصول إليها، تمكن الإمام من الوصول إليها عبر علاقته الروحية والعقائدية والدينية وحتى العلمية مع رسول الله صلى الله عليه وآله.
ولهذا عكف الإمام علي سنوات متواصلة يبحث في علمية اللغة وتأثيرها ومعانيها، وما تقدمه الآداب من مضامين وثقافات وأفكار يمكن أن تغيّر وعي الناس وعقلياتهم وتأخذ بأيديهم نحو جادة الصواب، فجاءت خطبه ورواياته وكتاباته عبارة عن مصابيح لغوية لا تنطفئ، تحمل مضامينها الفكرية عاليا، وتقدمها لكل من يجنح نحو التفوق والعلمية العالية
لذلك تميَّز الإمام علي عليه السلام (بخطبه ورواياته ورسائله الشريفة الدالة على مدى علمه والذي لم يرد مثلها أصلاً عند بقية المسلمين ولا أحد من الصحابة، وهذا (نهج البلاغة) خير دليل على ما نقول، وكذلك إخباره عن شتى العلوم والحقائق بل والغيبيات بإذن الله تعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه: أنا مدينة العلم وعلي بابها).
الشخصية التي جُمِعتْ فيها الأضداد
ومن الصفات العظيمة في شخصية الإمام علي الزهد وهو من الملَكات التي لازمت شخصية الإمام علي عليه السلام، لدرجة أنه أصبح مضربا للأمثال في مجال الزهد ونبذ الدنيا ومغرياتها، فهو الذي دخل (بيت السلطة) بجلبابه الذي لم يفارق جسده إلا نادرا، وجعل من الناس عليه شهودا في حال تغيّرت أحواله المادية نحو الأفضل، واكتنز الأموال وسواها.
لقد جعل من الأمة (حكَما) عليه إذا تغيّرت أحواله وأوضاعه عند خروجه من السلطة، وبالفعل عندما غادر خرج بذلك الجلباب الذي دخل فيه للسلطة، على العكس من حكام ومسؤولي وقادة المسلمين في البلدان الإسلامية، فما أن يحصل على منصب حتى يجعل منه منجما للسرقة والانتفاع له أولا ولأولاده وأقاربه والمقربين منه، بينما تُضرب كل القوانين والأحكام والأعراف والقيم عُرض الحائط من قبل هؤلاء الفاشلين.