“سيرة موجزة للألم” توظيف الأساطير والأحلام في حكاية واقعية عراقية

المراقب العراقي/ المحرر الثقافي..
يرى الناقد قاسم المشكور، ان “الروائي حميد المختار في روايته المائزة “سيرة موجزة للألم”، أبحر فينا كقرّاء في عوالم افتراضية متخيلة، هي في الحقيقة خليط من الأحلام والأساطير، منسوج سردها بدقة متناهية، ليغدو لذيذا ساحرا في حكاية واقعية عراقية”.
وقال المشكور في قراءة خصَّ بها “المراقب العراقي”: “إني لأغبط المختار هذه المجازفة، فنحن نعيش في عصر العلم، وهو دون أدنى شك يمثل البديل الأكثر جدارة، وقدرة في تأكيد حضوره الفاعل في حياتنا، وتحديدا الثقافية، لكن أن يبادر روائي الى توظيف الأساطير والأحلام في طريق العبور الى ذهن القارئ، فهذه هي الجرأة بعينها، على أن الروائي المختار حافظ على الشعرة الرقيقة التي تفصل بين انغماس القارئ وتماهيه مع عالم الأساطير وبين وجوده الواقعي في الحياة، ومعلوم أن الانخراط مع فنون السحر والأساطير والأحلام قد يساهم في تعزيز صلابة الواقع أكثر من المعتاد، مما قد يفضي هذا الى ارتهان البناء الذهني للقارئ بهذا العالم الوهمي، ليغدو في النهاية بعيدا عن الإحساس بالواقع من جهة، وفي خصومة دائمة مع فردانيته وذاتيته من جهة أخرى”.
وأضاف: “ذات مرة، قلت للروائي حميد المختار، انك نساج ماهر للكلمات في سردياتك الروائية، وتمارس أعلى درجات الصبر بغية إتمام نسجك الروائي، وها أنا اليوم اجدني محقا في وصفي ذاك له، ومصداق هذا القول أو التوصيف هو رواية (سيرة موجزة للألم)، فقد مارس فيها المختار أعلى درجات اليقظة والانتباه لحركة الشخصيات داخل جسد الرواية التي بلغت الثلاثة مئة وستين صفحة، والتي اضطلعت دار سطور بمسؤولية طباعتها، على الرغم من تخمة الرواية بعدد هائل من الشخصيات، ولم يتوانَ المختار عن إمطار شخصياته وأحداثه بجرعات مذهلة من الخيال الحيوي والخصب”.
وتابع: “في ظني المتواضع، ان الخيال إذا ما أجاد الروائي فعله وتوظيفه بالشكل المطلوب، فأن العناصر الروائية الأخرى والتي تعمل داخل السرد الروائي أو في إطاره، ستغدو قادرة على تشكيل العمل تشكيلا رصينا وراكزا، وانطلاقا من هذا الفهم أو التصور، فأن المختار لم يدخر جهدا في استثماره -ولأقصى حد- الخيال، فمنع بذلك انزلاق العقل في مهاوي الركود، فلا عقل سليم دون قدرته على التخيل”.
وبين: “لقد أعادنا المختار وبطريقة فنية ناعمة الى حضيرة الخيال، مما أفضى الى تنشيط مؤثراتنا الحسية، وإيقاد شعلة الشغف في نفوسنا، وانا بوصفي متلقيا، أقول: ما كان لكل هذا ان يحدث، وتحديدا الانخراط في المغامرة الذهنية- لولا براعة الروائي المختار، بعد ان سارع الى إطعامي ترياق مضاد للتبلد، ليقضي تماما على الخفوت بالشغف الذي ساهمت المؤثرات العلمية في تعزيز غيابه”.
وتساءل، “كم هو صعب إعادة فتح بوابات الخيال التي أوصدها التقدم العلمي، ومما يحسب للمختار أنه حوٌل وبطريقة فنية مذهلة مجموعة الأفكار والخواطر والذكريات المتناثرة على جسد الماضي القريب، حولها الى مادة سردية ممتعة، وقابلة للتصديق”.
ولفت الى إن “السرد لدى الروائي المختار وتحديدا في هذه الرواية عبارة عن استجارة بالخيال بهدف إنتاج الصور الحياتية، على أنٌ السرد لدى المختار هو الحياة بعينها، وقد اتاح له الخيال ان يتخيل الأحداث بروية، وبهذا يغدو الحدث لدى المختار سابقا للخيال، مثلما يتقدم ذات الخيال على إنتاج الصور، على أنٌ المختار في سرده لا يحاكي ما يراه تخيلا فقط، وإنما هو يؤرخ تصويريا ما عاشه في الماضي أصلا، ولأن الماضي هو مادة السرد غالبا، فلا غرابة بعد ذلك إذا ما غدا السرد لديه هو التأريخ”.
وبين: ان “للروائي المختار فهمه الخاص والاستثنائي للسرد الروائي في هذه الرواية تحديدا، فهو ينظر الى السرد بوصفه ترجمة مناسبة للأساطير والأحلام، ليحيلها فيما بعد الى ترجمة فكرية يتضمنها مفهومه الجديد للسرد، على أن المختار ترجم هذه الأفكار بطريقة التبويب الروزنامي المقولب عبر تقسيمه الى محطات متعددة”.
وأكمل: “لا أبالغ، ولا آتي بجديد إذا قلت أنٌ المختار في هذه الرواية، تمكن وببراعة من توحيد شطري السرد، الميتافيزيقي والواقعي معا، عبر تزاوج ذكي بينهما في حكاية واقعية عراقية، أفضى الى منح الأفكار ذات الصلة بالتأريخ والذاكرة بعدا نفسيا، أما الأمر الأشد براعة، فهو مقدار الطاقة المحركة للأحداث داخل جسد الرواية”.
وأشار الى ان “إخلاص المختار للميثولوجيا في هذه الرواية، لا يتعارض مع المساحة التي منحها للواقع، لانه يستخدم الأسطورة كممارسة سردية ذات بعد نفسي، بعد أن أدرك بموهبته الفذة، أن إيصال رسالة السرد مرهون بتخليق حالة من الشغف لدى القراء”.
وأوضح: “لقد نجح المختار في خلق حالة تلاقٍ طبيعي بين التأريخ والذاكرة عبر صهره للمتخيل التأريخي بالمتخيل السردي، كما إني لا أشك ولو للحظة في أن المختار في هذه الرواية قد مارس نوعا من التجريب، لا بمعناه الابتكاري، بل بمخالفته للسائد السردي في الرواية العراقية، على ان السرد لديه، هو فن يمنحه مساحة مناسبة للتفكير والتأمل. وأنا أعتقد أن المحفز في هذا كله هو نزوعه الطليعي في كتابة الرواية الملحمية بطريقة غير تقليدية”.