باقون على العهد يا سيد الشهداء!

بقلم: أحمد عبد الرحمن..
على الرغم من أنه سبق لي أن كتبت عن رحيل سيد شهداء المقاومة، ومع أن كل الشواهد والدلائل والبراهين كانت قطعت بما يدع مجالاً للشك بأن استشهاد سماحته هو حقيقة وليس وهماً أو سراباً، كما كان يعتقد البعض وأنا منهم، فإن قلبي وروحي وعقلي ظلّت متعلّقة بهاجس هو أقرب إلى الرجاء والتمنّي بأن يكون السيد في قيد الحياة، وأنه ذهب في رحلة قصيرة للاستشفاء والتعافي، ثم سيعود كما الأيام الخوالي، ليُذهب عبر طلّته البهيّة ما لحق بأرواحنا من تعب وعناء، ويطرد بابتسامته الساحرة ما علق بقلوبنا من وساوس الشيطان، ويقطع بكلماته النديّة كل أقاويل المُرجفين والظالمين والقتلة.
ففي بعض الأحيان نحن نحتاج إلى التعلّق بكثير من الأمنيات وربما الأوهام حتى لا نسقط أو ننكسر، إذ إن أرواحنا ليست قطعة من حديد أو فولاذ لتتحمّل كل ما يواجهها من مصاعب وأزمات، وليست جامدة إلى تلك الدرجة التي تجعلها قادرة على التصدّي لسيل الأحزان الممتد منذ عشرات السنين، فهي كما كل البشر، الذين خلقهم الله، تفرح وتحزن، وتسعد وتشقى، وهي في حاجة ماسة إلى ما يروى ظمأها، ويُذهب تعبها، ويخفّف عنها بعض ما تلاقيه في هذه الحياة الصعبة والقاسية.
منذ إعلان موعد تشييع جثمان سيد شهداء المقاومة، وقائدها المظفّر، ورمزها الأبدي، سماحة السيد حسن نصر الله رضوان الله عليه، وجد كل المحبين والعاشقين لسماحته أنفسهم أمام الاختبار الأصعب، والذي، وإن كانوا ينتظرونه منذ شن العدو القاتل والمجنون هجومه الأعنف على ضاحية العز والإباء، إلا أن الانتظار شيء، ومواجهة الأمر بكل تأكيد شيء آخر، بحيث تعود الذكريات إلى نقطة البداية، وتتجدّد الأحزان بصورتها القاسية والمرعبة، صورة لم نكن نتوقّع يوماً ما أن نعايشها، أو أن نقف أمامها وجهاً لوجه، فالمواجهة ليست مرغوباُ فيها في كثير من الأوقات، وهي ليست مستحبّة في عدد من الأحيان، وفي بعض الحالات نرغب في تأجيلها أو حتى الهروب من أمامها ما أمكننا إلى ذلك سبيلاً.
اليوم وغداً وبعد غدٍ، وإلى آخر العمر، ستسيل دموع العشّاق رغماً عنهم، وسترتجف قلوب المحبين كما لم تفعل من قبل. اليوم نشعر بألم كبير، وحزن عميق، لا نكاد نجد لهما مثيلاً على الإطلاق، ولم يسبق لنا أن شعرنا ولو بنصفهما أو ثلثهما أو ربعهما من قبل. فهذا الحزن قاتل، وهذا الفقد موجع، وهذا الألم يكاد لا يُحتمل.
لا أعرف كيف ستكون حالنا عندما نرى نعش الأمين المؤتمن يُحمَل على أكتاف الرفاق، والجموع الغفيرة، التي حاولوا ترهيبها بكل الطرائق والوسائل، تُحيط به من كل الجهات. سنوقن حينها، من دون أدنى شك، أن لا مناص من الفراق، ولا فكاك من البعاد، وأن كل ما كان يعلق في نفوسنا وأرواحنا، من ذرة أمل، ذهب أدراج الرياح؛ تلك الرياح السوداء التي جاءت من خلف جدران خيبر، لتثأر من جدّه الكرّار، ولتذكّرنا من جديد بكربلاء الحسين، رضوان الله عليه، ورأسه المرفوع على سنان رماح القتلة، إلا أنها هذه المرة تُرفع على أجنحة طائرات البغي والعدوان، وعلى مدافع الدبابات التي ما زال بعضها يجثم على أراضينا في الجنوب المدرّج بدماء الشهداء وأشلائهم.
فيا سيدّي وسيّد الشهداء، ماذا عسانا نقول في هذه اللحظات العصيبة والأليمة، ماذا عسانا نقول وقد كنت لساننا الذي ننطق به، ومدادنا الذي نكتب به. ماذا عسانا نأمل من مستقبل لست موجوداً فيه. ماذا عسانا نرغب في حياة بعيداً عنك. ماذا عسانا ننتظر من فرح كنت أنت بهجته، وماذا عسانا نتلافى من حزن كنت أنت بلسمه الشافي.
اليوم، تنادي عليك الملايين من أبنائك ومحبيك أن قم يا سيدنا، وبدّد عنا هذه الظلمة القاتلة، وادفع عنا شر المجرمين والمارقين، فشرّهم وإجرامهم يا سيدنا ازدادا واستفحلا بعد رحيلك، وضحكاتهم المجنونة تُسمع في كل الأرجاء، فهل من عودةٍ تكسر سيوف الشر، وهل من قيامةٍ تُذهب ضنك العيش، وهل من طلّة تعيدنا إلى الأيام الخوالي، حيث الحب والصفاء والنقاء.
نعرف، يا سيدي، أن كل ما نكتب مجرّد أمنيات، وأن خبر رحيلك ليس دعاية سوداء صاغتها أجهزة الاستخبارات في واشنطن و”تل أبيب”، وأن روحك التي غادرت جسدك المُتعب والدامي لن تعود إلى دنيا الفناء من جديد، وأن هذا الرحيل لن يكون مؤقتاً أو طارئاً، بل هو أبدي ومستدام، في انتظار أن نلتقي في عالم أطهر وأجمل تحت عرش الرحمن، بإذن الله.
في هذه الأيام الحزينة، وفي هذه اللحظات المؤلمة والقاسية، نعلن، يا سيدي، من جديد، انحيازنا إلى خيارك، وولاءنا لطريقك، وعهدنا وقسمنا بأن نستمر على درب الشهداء، وخيار المقاومة، فلا مهادنة مع القتلة والمجرمين، ولا صلح مع شذّاذ الآفاق وقاتلي الأطفال، فبيننا وبينهم أنهار من الدم، وجبال من الجثث، وثأرٌ طويل حتى آخر العمر.
اليوم، يا سيد الشهداء، نعلن انحيازنا إلى المستضعفين والمظلومين، نعلن انتماءنا إلى فلسطين ولبنان واليمن والعراق وكل جبهة المقاومة. نعلن، كما كنت تعلن على الدوام، أن التضحيات تهون أمام عظمة الأهداف، تلك الأهداف التي دفعت روحك ثمناً لها، وقدّمت وقتك وجهدك وثواني عمرك في سبيل تحقيقها.
ختاماً، نقول لك ما قاله صديقك وحبيبك الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، رضوان الله عليه، في تأبين الشهيد الكبير السيد عباس الموسوي: “بورك حزب يستشهد أمينه العام، وإن حزباً يستشهد أمينه العام لن ينكس”. فكيف بنا اليوم وحزبك العظيم يقدّم ثلاثة من أمنائه العامّين على مذبح الحرية والكرامة، وهو يواصل المسير على رغم كل ما يحيط به من مؤامرات نحو القدس وفلسطين، نحو الحرية والعدالة لكل شعوب المنطقة والعالم.
نقول، في هذا اليوم التأريخي والمشهود، وفي هذه اللحظات الفارقة، إن حزباً ينحت في الصخر، ويجترح المستحيل، لن يسقط ولن ينهزم، وإن من تبقّى من قادة هذا الحزب، وهم كُثر، سيواصلون المسيرة حتى النهاية، غير عابئين بسيل التهديدات، ولا بعديد المؤامرات، فهم يمتلكون من الخبرة والكفاءة ما يمكّنهم من مواجهة كل المخاطر والصعوبات، والوصول إلى بر الأمان والاطمئنان.