رحلة العبور إلى التحرير الثالث.. نصر في ضوء الشمس
بقلم: علي عوباني..
عبروا والنصر يتلألأ في ضوء الشمس.. يصدح مقاومة من صيحات العائدين.. على مُحيّاهم ألق عز مبين.. تغمرهم معاجم عشق الأرض.. فرحتهم بادية على وجوههم.. وعبرتهم في عيونهم مخنوقة مكتومة إلى حين.. عبروا وغبار العزة يحفهم من كل جنب وصوب.. من تحت الركام انتفضت عروس الأرض، لبست أبيضها، تستقبلهم بعد طرد الغاصبين، طال اشتياقها وانتظارها كأنه دهر وسنون.. لكنه استحال في غمرة اللقاء عرسًا وطنيًا يرصع بالكرامة كل جبين.
إلى الجنوب.. إلى عيترون در.. بعد 15 شهرًا من الابتعاد القسري على وقع الأناشيد الثورية انطلقنا حاملين راية المقاومة وصور شهدائنا.. منذ الصباح الباكر يممنا وجهنا جنوبًا وسرنا. كان مشهد العودة مهيبًا. قوافل السيارات أمامنا، والكل في وجهة واحدة، الكل مشتاق ليشتم رائحة ثرى الجنوب وليتعطر بالعز والكرامة وتلفحه نسائم النصر التي تنقلنا من جديد إلى زمن التحرير عام 2000، زمن الانتصارات المعبّد طريقه بأجساد الشهداء الطاهرة المزروعة في الأرض، فأثمرت ياسمين حرية ورياحين نصر.
سرنا ولافتات الترحيب بالعودة تؤازرنا على جنبات الطريق من بيروت إلى مدخل صيدا صعوداً، وكلما تقدمنا أكثر كان القادة الشهداء يرمقوننا بعيونهم من صورهم المنتشرة على الأوتوستراد، ويغمروننا بابتساماتهم كأنهم يشاركوننا من عليائهم فرحة النصر الذي خططوا له وخطوه بدمائهم.
إلى ساحة بلدة كونين وصلنا تجمَّعَ أهالي البلدة وعوائل الشهداء لاستقبال الوافدين بالمضائف وهم يحملون رايات المقاومة وصور شهدائهم.. تكرر المشهد عند مدخل عاصمة التحرير بنت جبيل، مضيف تتقدمه صورة كبيرة للشهيد الأسمى الأمين العام السيد حسن نصر الله تليها صور شهداء المدينة.. مشهد يختصر بطولات وتضحيات جسيمة قدمت على مذبح الوطن ويعبر عن تمسك أهل الأرض بخطهم ونهجهم المقاوم رغم كل المآسي والدمار الذي عايشوه 15 شهرًا لكنهم ما بدلوا تبديلاً، بل ازدادوا صلابة ويقيناً بمقاومتهم وبأن تضحياتهم أزهرت وأثمرت.. بعد اليوم لم تعد المقاومة حكرًا على شبانهم، صار الكل مقاومًا. صار الطفل مقاومًا.. والنسوة مقاومات.. الكل، الكل دون استثناء ضحوا بدمائهم وأرزاقهم وبيوتهم وأبنائهم، واليوم في مسيرة العودة مستعدون بجرأة قلّ نظيرها لتقديم أنفسهم وهم مرفوعو الرأس شامخون كجبلي “كحيل” و”الباط” اللذين يحدان عيترون.
إلى مثلث التحرير توجهنا، الشاهد الأبرز على بطولات المقاومين عام ٢٠٠٦، ومجددًا عام ٢٠٢٥ هناك تجمع أهالي البلدة بمؤازرة الجيش اللبناني جميعهم كانوا على الموعد باكرًا.. بل لم ينتظروا الموعد المحدد للانطلاق. من قرب مستشفى الشهيد صلاح غندور انطلقوا، قبل الموعد كانوا باكرًا عند قوس النصر على مدخل البلدة، على بعد مئة متر من موقع تمترس به جيش العدو في ميركافا خلف ساتر ترابي منتصف الطريق.
كانت أولى محاولات دخول البلدة بالأجساد العارية.. واجهها العدو الجبان بإطلاق الرصاص الحي على الرؤوس ما أفضى لاستشهاد شابين وجرح عدد آخر جرى سحبهم.. لم يفتَّ ذلك الإرهاب والقتل العشوائي الذي مارسه العدو من عضد الأهالي، بل زادهم تشبثًا وإصرارًا على الدخول إلى البلدة فعاودوا محاولاتهم بعدما تواترت أخبار الدخول إلى عدد من القرى الحدودية المجاورة.. ظلوا ينتظرون طوال النهار أملاً بتحقيق حلم العودة، وبدل أن تنخفض أعدادهم ازدادت في فترات بعد الظهر.. وعمل المعنيون على ضبط اندفاعتهم بالتنسيق مع ضباط وجنود الجيش الذين أبدوا كامل التعاون معهم، وبينما الأمور على هذا المنوال تواترت أخبار جديدة عن استشهاد رجل وامرأة كانا يستقلان سيارة، حاولت الإسعاف التقدم لسحب جثمانيهما لكنها لم تستطع، فعادت أدراجها خالية، وما إن علم الضابط حتى ركض باتجاه آليته ونادى أحد الجنود، وتوجه أمام الاسعاف فعادت تحمل الزوجين الشهيدين. مشهد اختصر بتجلياته معادلة جيش وشعب ومقاومة الذهبية وتكاملها في مواجهة العدو الغادر.
بعدها عاد الأهالي لمحاولة دخول بلدتهم مجددًا. استقدموا جرافتين و”بيك آب” مزوداً بمكبرات صوت، تذيع الأناشيد الحماسية للمقاومة. واتفق المعنيون على أن تسير الآليات في المقدمة والجيش خلفها، ومن خلفه الأهالي، لكن الجيش كان ينتظر الأمر من قيادته بالتقدم وبقي طوال يوم الأحد دون أن يأتيه ذاك القرار.
لقد حولت الحرب وأطنان القنابل البشر وحبات التراب والحجر والريح والشجر في جنوبي الصامد مقاومة شامخة لا تنكسر.. وعلى أرض الجنوب تحول جنود الجيش الذي لا يقهر إلى فئران تختبئ من أناس عزل يقاومون بصدورهن العارية إرهاب ورصاص الجيش القاتل المعزز بفائض القوة العسكرية دون اكتراث، فهم صنعوا المعادلات وأبهروا العالم بمعجزاتهم وسيّجوا حدود وطنهم لبنان بدمائهم وأثبتوا من جديد أنهم مدرسة السيادة والوطنية، وأنهم أشرف الناس وتاج الرؤوس.. الذين حققوا النصر الساطع وأذلوا ويذلون كل يوم عدوهم الغاشم.