كيف يتجسس الكيان الصهيوني لصالح إيران؟

محمد هلسة..
لم يأتِ مفاجئاً، اعتراف الكيان الصهيوني علناً بأنه بات يحتلّ الفضاء الإلكتروني الفردي والمؤسساتي في الوطن العربي بعد موافقة كنيست الاحتلال، التمديد لـ”جيش” الاحتلال ولجهازي الشاباك والموساد بشرعيّة اختراق الحواسيب والكاميرات في الوطن العربي لعام آخر، بحجّة العمل العملياتي الميداني والضرورات الأمنية.
لكن الذي لم نعتد سماعه، هو التحذير الصادر عن مراقب “الدولة” في “إسرائيل” والذي جاء فيه، أنّ “نزاهة الانتخابات الإسرائيلية في خطر”، مشيراً إلى “وجود عيوب جوهرية في استعداد “إسرائيل” للتأثيرات الأجنبية على انتخابات 2026″، مطالباً الحكومة ولجنة الانتخابات، أن “تستفيقا وتستعدّا”.
ووفقاً للمراقب، فإنّ أخطر التهديدات على الانتخابات هي “تزايد تهديدات السايبر من إيران”.
فبينما تواصل “إسرائيل” حربها العسكرية على ما تسمّيها “السبع جبهات” مع المقاومة الفلسطينية وحزب الله وأنصار الله وإيران، تتطوّر منذ سنوات، وراء الكواليس، ساحة أخرى للمواجهة أقلّ صخباً وأكثر خطورةً، تُجنّد الجمهورية الإسلامية في إطارها، مواطنين إسرائيليين لمهام تجسّس لمصلحتها.
صحيح، أنّ الحملة الايرانية انطلقت قبل السابع من أكتوبر 2023، إلا أنّها تصاعدت أثناء الحرب الإسرائيلية على القطاع، باعتبارها جزءاً من جهد الإسناد العامّ الإيراني لحماية أحد أطراف محور المقاومة (حماس) ومنع هزيمته.
ويبدو أنّ إيران، راهنت على أنه إضافة إلى المكاسب الاستخباراتية المعلوماتية التي قد تجنيها من هذه الحملة، فإنّ التحرّكات الهادفة إلى إضعاف التماسك الداخلي في “إسرائيل” خلال الحرب عبر استغلال الخطاب السائد والتوترات الداخلية، وانعدام الثقة المتزايد في الحكومة و”الجيش”، واستمرار الخلافات بين مختلف شرائح المجتمع الإسرائيلي، ستُسرّع، أو على الأقل تُعزّز قرار “إسرائيل” بضرورة وقف الحرب على القطاع.
استهدفت إيران في هذه الحملة البنية التحتية المدنية “الداعمة” للقتال، والتي يسهل اختراق دفاعاتها، مثل المستشفيات، بهدف الإضرار بالمجهود الحربي الإسرائيلي، مفترضة، أنّ الجمع بين أنشطة محور المقاومة وعملياتها السيبرانية المباشرة يسمح لها بتحقيق هدفها الاستراتيجي، في إسناد المقاومة في غزة وحمايتها.
تنظر إيران إلى البُعد السيبراني كأحد الخيارات الأهم الذي أمكنها من خلاله زيادة الاحتكاك الفعلي مع “إسرائيل” بما يسمح لها بتحصيل ثمنٍ ملموس منها من دون المخاطرة بردّ إسرائيلي مباشر، نظراً لصعوبة إثبات مسؤولية إيران عن هذا النشاط.
علاوة على ذلك، فإنّ حقيقة، أنّ إيران نفّذت عمليات سيبرانية واسعة النطاق ضدّ “إسرائيل” لفترة طويلة قبل الحرب تحت عتبة التصعيد نفسه قد أضافت إلى ثقة إيران في مقدرتها على مواصلة هذه العمليات وتعميقها، مع استخدام نمط العمل نفسه، والبنية التحتية التمكينية نفسها، والأدوات نفسها لتحقيق أهدافها.
استخدم مُشغِّلو النفوذ الإيرانيون، منصات التواصل الاجتماعي الرائدة على نطاق واسع، مثل X، وفيسبوك، وإنستغرام، ويوتيوب، وتيك توك، وواتسآب، وتيليغرام. كما أمكن ملاحظة استخدام خدمات إلكترونية إضافية مفتوحة ومجانية لجمع المعلومات، مثل نماذج غوغل، ومواقع بناء العرائض مثل Drove، وحساب PayPal لجمع التبرّعات.
كما أظهرت مراقبة وتحليل شبكات التأثير السيبرانية خلال الحرب، أنّ عملاء إيرانيين يعملون على تجنيد إسرائيليين لتنفيذ مهام، من خلال عروض عمل من حسابات وهمية وتوزيع استطلاعات رأي. تشمل الطلبات الفردية، من بين أمور أخرى، تعليق لافتات صمّمها الإيرانيون في الأماكن العامّة، وتصوير المتظاهرين وعناوين أفراد الأمن، وملء الاستبيانات، وحتى القيام بأعمال حقيقية مثل توزيع الطرود وطلب باقات الزهور إلى منزل والدي أسيرة إسرائيلية، وكذلك دفع ثمن الإعلانات على قناة تيليغرام إسرائيلية شهيرة.
وقد نجحت هذه الطريقة في التجنيد بالفعل في تحقيق نتائج لصالح الإيرانيين إذ يبدو أنّ مئات الإسرائيليين، وربما أكثر، على اتصال بعناصر إيرانية، ويتلقون أوامر منها. وفقاً لأجهزة الأمن الإسرائيلية يُغرى هؤلاء، بالخداع والإقناع والمال، للقيام بأعمال خطيرة وجريئة، حتى أنّ بعضهم كان مستعدّاً للقتل نيابةً عن إيران.
يبدأ الارتباط أحياناً برسالة تظهر على جهاز كمبيوتر أو جهاز خليوي، وفي حالات أخرى، يتناقل الإسرائيليون، الحديث عن “ربح سهل” مقابل مهام تصوير بسيطة. وربما تنتهي رحلة سياحية أو رحلة عمل إلى دول معيّنة تجمع بين إسرائيلي وإيراني ينتحل صفة مواطن عادي أو رجل أعمال، بـأن تتحوّل إلى صفقة تجسس لصالح إيران.
الافتراض السائد في “إسرائيل” هو، أنّ إيران تعمل على نطاق واسع؛ من التأثير والتلاعب النفسي إلى التشغيل المباشر للعملاء، وتعتقد مصادر أمنية أنه، من السهل “إيقاع” الإسرائيليين بالمحتوى وتوجيههم تدريجياً إلى مهام تجسس، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وكان واضحاً للإسرائيليين كذلك، أنّ اختيار أسماء المُشغّلين والشخصيات، وتصميم الشعارات، ووضع خط تصميم واضح للمنشورات الجرافيكية، يدلّ على فهم إيراني عميق للخطاب المحلي والفروق الدقيقة في “إسرائيل”.
تُنفَّذ عملية التجنيد باستخدام أسلوب “الدردور”، (الانتقال من السيّئ إلى الأسوأ)، إذ يبدأ الإسرائيليون الذين كانوا على اتصال بالإيرانيين بمهام لا تُشكّل خطراً عليهم، مثل تصوير الشوارع واللافتات وحرق الزي الرسمي، ثم تصبح المهام لاحقاً أكثر تعقيداً، كتصوير عناوين شخصيات مهمة، أو الوصول إلى مستشفى حيث تُعالج شخصية عامة، أو الحصول على أسلحة واستخدامها.
علمياً، هناك مساران رئيسان يعمل عليهما الإيرانيون؛ الأول عسكريّ، ويتمثّل في تحديد الأهداف وتصويرها وتوثيقها بدقةٍ استعداداً لهجوم مستقبلي؛ والثاني أيديولوجيّ، إذ يُجنّدُ الإسرائيليون بهدف تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية، وخلق التوتر والفوضى السياسية، وزرع الشكّ بين شرائح المجتمع، وتشجيع التظاهرات وزعزعة الثقة بالحكومة ومؤسساتها، من خلال مجموعة متنوّعة من عمليات التأثير في الخطاب الإسرائيلي عبر منشوراتٍ على مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو كتاباتٍ على الجدران، أو منشوراتٍ تُسيء إلى الحكومة والقادة في “إسرائيل”، كما برز استخدام منتجات الذكاء الاصطناعي عبر تصميم الملصقات وتوزيع مقاطع فيديو مُزيّفة يمكنها أن تخدع المواطنين والإعلاميين والمسؤولين المنتخبين.
تستمر شبكات التأثير في التطوّر بشكل مستمر، وتتطوّر الأحداث الجارية في “إسرائيل” بوتيرة مذهلة، مما يُهيّئ بيئة خصبة لاختراق عمليات تأثير جديدة ويعزّز صورة القوة الإيرانية في الفضاء الرقمي والسيبراني وقدرة الإيرانيين على العمل ضدّ المجتمع الإسرائيلي.
ووفقاً لتقييمات الأجهزة الأمنية، فإنّ الحرب السرية على قدم وساق، ومن المتوقّع أن يُكثِّف الإيرانيون، جهودهم في التجنيد عبر الإنترنت لتنفيذ مهام في “إسرائيل”، خاصة على خلفيّة نتائج حرب الـ 12 يوماً بين “إسرائيل” وإيران. وقد كشف جهاز الأمن العامّ والشرطة عن 30 حالة، عمل فيها 46 إسرائيلياً لصالح الإيرانيين، يقبع غالبيتهم الآن في السجون الإسرائيلية.
ويدرك قادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أنّ “العدوّ مُحنّك وماهر”، ويعمل بأسلوب “الرشّ”، أي يُطلق النار في جميع الاتجاهات، آملاً في إصابة كلّ هدف مُحتمل، وآملاً في أن يجد إسرائيليين مُستعدّين للعمل معه مُقابل مكافأة مالية.
وتتعامل “إسرائيل” بجدّية مع خطر النفوذ الإيراني المتنامي على منصات التواصل الاجتماعي، في الحياة اليومية وفي الحروب، إذ تعرف إيران ثغرات الجمهور الإسرائيلي، وتنجح في إثارة ضجة إعلامية، والتأثير على الخطاب العامّ، وحتى على صُنّاع القرار.
فإذا كان هناك هذا العدد الكبير من الإسرائيليين الذين أُلقي القبض عليهم خلال العام الماضي، في ظلّ حرب دائرة، وهم يصوّرون قواعد وأنظمة دفاعية لصالح إيران، فهل هناك عدد أكبر لم يُقبض عليهم بعد؟ بالطبع، لا توجد إجابة عن هذا السؤال، لكنّ الأمر المؤكّد هو، أنّ القدرة على التجنيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي قد مهّدت الطريق للإيرانيين لاستمرار التدخّل والتأثير، وربما من هنا يمكن أن نفهم خلفيّة التحذير الذي أطلقه مراقب “دولة” الاحتلال حول الخطر السيبراني الذي يُهدّد نزاهة الانتخابات الإسرائيلية المقبلة.



