المجتمع أقوى من السلاح.. درس غزة في مواجهة مشاريع الاحتلال

محمد الأيوبي..
ليست ظاهرة الميليشيات في غزّة، حدثًا طارئًا يمكن إدراجه ضمن سياق الفوضى التي ترافق الحروب الكبرى، بل هي انعكاس لمنهجية مُحكمة استخدمتها “إسرائيل” تأريخيًا في كلّ البيئات التي سعت إلى السيطرة عليها أو إعادة تشكيلها. من جنوب لبنان إلى الضفّة الغربية، ومن سيناء في الستينيات إلى غزّة اليوم، هناك معادلة واحدة تتكرّر: عندما يعجز الاحتلال عن إخضاع المجتمع، يلجأ إلى خلق قوى محلية موازية، ميليشيات، لجان أمنية، أو واجهات سياسية مصطنعة، هدفها تقويض البنية الاجتماعية، ونزع الشرعية عن القوى الوطنية، وتحويل الصراع إلى نزاعات داخلية تُخفف العبء المباشر عن القوّة المحتلة.
لكن غزّة، بكلّ تعقيداتها، قدّمت درسًا مختلفًا: ليست القوّة العسكرية هي التي تحسم الصراع، بل الشرعية الاجتماعية. فالاحتلال يمكنه أن يفرض سلطته بالنار، لكنّه لا يستطيع أن يفرض مشروعه في مجتمعٍ يعرف تركيبته، ذاكرته، وهويته السياسية. ولذلك، فإن انهيار نموذج “الميليشيات المحلية” في غزّة ليس مجرد فشل تكتيكي للاحتلال “الإسرائيلي”، بل انتكاسة إستراتيجية عميقة تؤكد مرة أخرى، أن الشرعية المستندة إلى المجتمع، لا إلى رعاية المحتل، أقوى من أي سلاح.
فوضى مصنوعة لا عشوائية
ما بدا للعالم الخارجي مجرد انهيار أمني في أعقاب الحرب، كان في الواقع مساحة هندستها “إسرائيل” بعناية. فمع تدمير المنظومة المدنية الفلسطينية وتفكك الأجهزة المحلية، خصوصًا في المناطق الشرقية لرفح، نشأت مجموعات مسلحة ذات طبيعة جنائية، مستفيدة من غياب السلطة وضعف الرقابة. سرقة المساعدات، تهريب، ابتزاز، اقتصاد موازٍ… عناصر اعتاشت على هشاشة المجتمع. في الظروف الطبيعية، كانت ستظل هامشية، لكن الاحتلال تعامل معها كفرصة.
عندما اجتاح “الجيش الإسرائيلي” رفح وشرّد أهلها، وجد أمامه مشهدًا يمكن تحويله إلى نموذج سياسي-أمني تجريبي: مجموعات صغيرة بلا قاعدة شعبية، منبتّة عن المجتمع، لكنّها قابلة للتوظيف لأنها تبحث عن المال، النفوذ، أو الحماية. هكذا تحولت الجريمة إلى “أداة”، والفوضى إلى “منهج”، لتجريب مشروع “بديل عن حماس” أو بالأحرى غزّة مُعاد تشكيلها على مقاس الاحتلال.
الوظائف “الإسرائيلية” للميليشيات
من منظور إستراتيجي، لم تراهن “إسرائيل” على هذه المجموعات عشوائيًا؛ فقد صُممت لأداء ثلاث وظائف أساسية: تقليل الخسائر البشرية “الإسرائيلية“ في بيئة قتالية تُعد الأصعب في العال -أنفاق، كمائن، أحياء مفخخة-كان الاحتلال بحاجة إلى “أذرع محلية” تساعده في جمع المعلومات، تحديد الممرات، أو تنفيذ مهام قذرة يصعب على جنوده القيام بها. ميليشيات بلا شرعية تُستخدم ككاسحات طريق بشرية.
خلق واجهة حكم محلية مصطنعة
في ظل إصرار “إسرائيل” على خوض الحرب من دون رؤية سياسية لليوم التالي، بدا تأسيس “نماذج حكم محلية” وسيلة لشراء الوقت. واجهات تُسوّق على أنها “تمثّل المجتمع”، وهي في الحقيقة لا تمثل إلا حاجة الاحتلال للقول، إنه يملك بديلًا. وكلّ التجارب المماثلة -من جيش لحد في لبنان إلى الروابط القروية في الضفّة- تثبت أنّ هذه المشاريع تستهلك وقتًا، لكنّها لا تصنع شرعية.
إدارة السكان بالوكالة
الإستراتيجية الأخطر كانت تحويل الميليشيات إلى أدوات للتحكم السكاني. مناطق محكومة ميليشياويًا، إلى جانب كيانات إنسانية تتولى الإغاثة والتوزيع، لكن تحت مظلة الاحتلال. النموذج هنا يجمع الأمن والإغاثة في يد قوة واحدة مرتبطة بالمحتل، بما يسمح بعمليات “فرز أمني” وتوجيه الكتل البشرية نحو مناطق محدّدة، خصوصًا منطقة رفح، في مسار يفتح نظريًا الباب أمام ترتيبات تهجير قسري أو طوعي.
هذه الهندسة الاجتماعية ليست جديدة؛ إنها النسخة الفلسطينية من مشاريع استعمارية قديمة استندت إلى فكرة واحدة: حرّك المجتمعات كما تشاء، شرط أن تنزع عنها قدرتها على التنظيم الذاتي.
الشرعية المجتمعية… العقبة التي لم تستطع “إسرائيل” تجاوزها
رغم كلّ الأدوات، انهار المشروع قبل أن ينمو. لماذا؟ لأن المجتمع الفلسطيني رفضه بالكامل. وهذه ليست مسألة رأي سياسي؛ إنها مسألة هوية.
أي مشروع سياسي يولد خارج بيئة المجتمع، أو يعكس إرادة الاحتلال لا إرادة الناس، محكوم عليه بالسقوط. وذاكرة الفلسطينيين، التي تختزن تجربة جيش أنطوان لحد في جنوب لبنان وتجربة ميليشيات الروابط القروية في الضفّة، جعلت أية قوة محلية مرتبطة بـ”إسرائيل” تُقرأ فورًا كأداة احتلال، مهما حاول الإعلام “الإسرائيلي” تلميع الصورة.
لقد شكّل الرفض الشعبي، جدارًا منيعًا أسقط النموذج. فسكان غزّة -حتّى في ظل الجوع والحصار والتهجير-تعاملوا مع هذه القوى باعتبارها امتدادًا للاحتلال، لا “بديلًا وطنيًا”. ومع تراجع قدرة الميليشيات على أداء وظائف سياسية، تحولت بسرعة إلى أدوات عملياتية قذرة: اغتيالات، خطف، وشلّ الحياة المدنية لصالح “الجيش الإسرائيلي”. ومع هذا التحول، بات التخلص منها محل إجماع شعبي.
“إسرائيل” تدير الفوضى لكنها لا تستطيع إدارة المجتمع
جوهر الدرس هنا يشبه ما قاله ديفيد هيرست مرارًا عن تجارب أمريكية مشابهة في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط: القوى الكبرى تستطيع إدارة الفوضى، لكنّها تفشل في إدارة المجتمعات ذات الوعي السياسي المتجذر. فالمجتمع الذي يمتلك ذاكرة مشتركة وهوية وطنية لا يمكن تفكيكه بواسطة ميليشيات هامشية.
غزّة ليست استثناءً. تحت القصف والجوع والدمار، كان المجتمع الفلسطيني واضحًا: الصراع مع الاحتلال أكبر من أي خلاف داخلي. وكلّ محاولة لتحويل الفلسطينيين إلى أطراف متصارعة داخلية ستُدمج في النهاية ضمن الصراع الأوسع مع القوّة المحتلة.
فشل المشروع وضرورة إعادة بناء البيت الفلسطيني
لقد فشلت الميليشيات، ليس لأنها ضعيفة عسكريًا، بل لأنها بلا شرعية. والشرعية لا تُمنح من الخارج، ولا تُنتجها القوّة، ولا تُصنَع في غرف العمليات، بل تولد من المجتمع نفسه. وهذا ما يجعل أي نموذج لغزّة ما بعد الحرب محكومًا بشرط واحد: أن ينبع من الداخل، لا من هيكل يُفرض سواء بقوة الاحتلال أو بضغط القوى الدولية.
إعادة ترتيب البيت الفلسطيني لم تعد رفاهية سياسية، بل ضرورة وجودية. ليس فقط لمواجهة الاحتلال، بل لمنع أية قوة هامشية -محلية أو دولية- من استغلال الانقسامات الداخلية لصياغة مستقبل الفلسطينيين من دونهم.
الشرعية أقوى من السلاح
الدرس الأعمق من تجربة الميليشيات في غزّة هو، أن الاحتلال يمكنه أن يبني قوة، يمول مجموعات، ويهندس فوضى، لكنّه لا يستطيع منح أي من هذه الأدوات شرعية. الشرعية تُنتجها المجتمعات، لا الجيوش. والسلاح الذي لا يستند إلى الرضا الشعبي هو مجرد أداة عابرة، تسقط مع أول اختبار حقيقي.
غزّة مرة أخرى تقول للعالم، إن القوّة التي تُصنَع تحت جناح الاحتلال لا يمكنها أن تصبح بديلًا، وإن المجتمع -مهما كان ضعيفًا أو مرهقًا- يمتلك قدرة أكبر على مقاومة مشاريع السيطرة من أية ميليشيا، مهما حظيت بالدعم.



