اخر الأخبارثقافية

لوحات محمود شبر.. استثمار لروح الحضارة الرافدينية وجوهرها العميق

المراقب العراقي/ المحرر الثقافي…

ترى الفنانة والناقدة التشكيلية أميرة ناجي أن لوحات الدكتور محمود شبر هي مساحات تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية مع الذاكرة الجمعية وفيها ارتباط الفنان بالموروث العراقي لا عبر الاستعادة الحرفية للرموز بل عبر استثمار روح الحضارة الرافدينية وجوهرها العميق.

وقالت في قراءة نقدية خصت بها ” المراقب العراقي”:يقول الفنان العالمي فاسيلّي كاندينسكي:(على اللوحة أن تولد من ضرورة داخلية لا من شكل خارجي فجوهر العمل الفني يكمن في روحه لا في هيأته)وتكشف هذه الحكمة طبيعة الفن الذي لا يعتمد على النقل الحرفي للعالم المرئي بل على تلك القوة الباطنية التي تعيد تشكيل الوجود بصريًا وروحيًا”.

وأضافت:” وعند تأمل تجربة الدكتور محمود شبر ندرك أن هذا المبدأ ليس مجرد رؤية جمالية بل هو الجذر العميق الذي تتفرع منه لغته الأسلوبية إذ تولد أعماله من حاجة داخلية إلى تفكيك الرموز وإعادة تركيب العالم ضمن منظار يستمد عمقه من الذاكرة والموروث والحس التفسيري  المتغلغل في تأريخ بلاد الرافدين وهي حاجة بنيوية وليست لحظة إلهام عابرة لأنها تتكرر عبر أعماله كأنها نَفَس داخلي يرافق كل تكوين وينسج علاقاته داخل المشهد البصري بعناية لا تنفصل عن رؤية شبر العميقة لمعنى الصورة ومعنى الكائن وهو نفَس يربط بين الفرد والمجتمع وبين اللحظة الراهنة وجذور التأريخ”.

وأشارت إلى أن”الدكتور محمود شبر يشكل أحد المسارات البارزة في المشهد التشكيلي المعاصر لما تحمل أعماله من طاقة سردية ترتكز على ثنائية الذاكرة والرمز  وتشتغل على خلق عالم بصري يتأرجح بين الواقعي والمُتخيَّل، فأعماله ليست تمثيلاً مباشراً لشخوص أو أمكنة بل فضاءات تتقاطع فيها الحكايات الشعبية والأساطير الرافدينية والرموز الإنسانية ضمن صياغة تجمع بين البساطة الظاهرة والعمق الدلالي المتشعب وهو عمق يكشف أن الفنان لا يرسم الشكل لذاته بل يرسم أثره النفسي وما يتركه في مساحة الوعي ويحوّل التفاصيل الصغيرة إلى بوابات تأويل تتسع مع كل قراءة حيث يفتح النص البصري على مستويات متعددة من التجربة الإنسانية والعاطفية والاجتماعية  كأن اللوحة نفسها مكتبة للوعي البصري المتجدد”.

وأوضحت:”وفي لوحات أخرى يظهر الرجل بملامح قوية ولون داكن يتقدم  كظل و كحماية و صوت داخلي مُوازٍ لعالم المرأة. وجوده لا يقدم معنى واحدًا بل يفتح احتمالات متعددة تجعله رمزًا للسلطة والأب والذاكرة الجمعية بكل ما تختزنه من قصص وصراعات، إن حضوره لا يطغى على المشهد بل يمنح التكوين توازنه الداخلي ليصبح جزءًا من شبكة العلاقات النفسية التي تشتغل عليها اللوحة ورغم صمته إلا أن صمته هذا يمارس وظيفة درامية تشكل ثنائية الحاجة والخوف وتعمق توتر المشهد وتضيف إليه طبقة شعورية تتجاوز البصر نحو الوعي حيث تتقاطع السلطة بالرحمة والهيبة بالخفوت لتظهر العلاقة بين الشخصيات كثنائية متناغمة ولكنها مشحونة بالتوتر الدقيق”.

وواصلت :”وفي إحدى اللوحات المهمة يقدم شبر المرأة إلى جانب رجل ذي حضور قوي يحمل ملامح تستدعي في المُخيَّلة صورة عنترة بن شداد الفارس الذي تماهى تأريخيًا بين الحب والحرب. في المقابل تحضر المرأة بروح عبلة رمز الحكاية العاطفية العميقة في الوجدان العربي. غير أن الفنان لا يستعيد هذا الثنائي بوصفه سردًا جاهزًا بل يعيد تأويله بمنظور معاصر يحول الرموز إلى طاقة بصرية نابضة ويعيد طرح علاقة الحب بالبطولة والأنثى بالذكر والأسطورة بالواقع. إنه لا يستنسخ الحكاية بل يُومئ إليها ويمنحها بعدًا  وصفيا يتجاوز الزمن ويعيد تشكيل حضورها داخل خطاب بصري جديد يمنح المتلقي إحساسًا بأن الأسطورة ليست حدثًا من الماضي بل طاقة مستمرة تتجدد في الوعي الإنساني وبهذا يصبح المشهد أكثر عمقًا  ويخلق حوارًا بين الماضي والحاضر وبين الرمزية الفردية والرمزية الجماعية”.

وأكملت: إن “هذا الاشتغال يجعل شخصياته تبدو كأنها خرجت من أرض بين الحكاية والواقع من تلك الأرض التي أنجبت جلجامش ورسمت أولى حروف العالم. هنا يتجلى ارتباط الفنان بالموروث العراقي لا عبر الاستعادة الحرفية للرموز بل عبر استثمار روح الحضارة الرافدينية وجوهرها العميق. فهو لا ينقل شكل الأسطورة بل يعيد بناء طاقتها ويحركها داخل خطاب بصري معاصر يجعل من الماضي مادة حية تتفاعل مع اللحظة وتعيد تشكيلها وهو ما يكشف قدرة الفنان على تحويل التأريخ إلى لغة تشكيلية لا تخضع للتقليد بل تخلق مساحتها الخاصة حيث يُصبح كل عنصر بصري موصلًا لمستوى من المعنى يتجاوز الرؤية البصرية إلى مستوى التأمل في الوجود والهُوية والذاكرة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى