مغالطات زمن الهزيمة

بقلم: د. ادريس هاني..
أفادني تأملي الطويل لمستويات اللجاج الذي منحته وسائل التواصل الجديدة، اقتدارا مزيدا من الهياج، في استنباط أنماط -لطالما كانت خفية- من المغالطة، بعد أن وجدت في الوسائل المذكورة مطية للظهور سافرة بلا قناع، وهو ما أسميه بالمغالطة العارية. لقد كانت المغالطة قبل ثورة الوقاحة الرقمية تمشي خفية على استحياء، كانت مخاتلة بامتياز. لكنها اليوم باتت حمقاء وقحة، ولما انضافت الوقاحة الى المغالطة، أصبحنا إزاء وضعية مركبة، حيث أصبحت المشكلة منطقية – أخلاقية.
تفقد المغالطة واحدة من خصائص قدرتها على مقاومة القاطيغورياس، وبذلك تصبح عارية وفاقدة لمناعتها.
يمكن أخذ الشرق الأوسط هنا كمثال صارخ على ساحة حيوية لترويج كل أشكال المغالطة العارية. فالزمن المنطقي لصمود المغالطة أمام المنطق تقضمه سرعة الأحداث وعنفها المفرط. وحتى الآن باتت الإمبريالية وحوافرها عاجزة عن خلق خطاب مقنع للعقل النقدي والتأملي، إن عنف الامبريالية لم يعد يسمح بالروية، فالمغالطة باتت متوحشة لا تحتاج إلى مخاتلة.
لنتحدث عن مبادئ القانون الدولي، وعن السيادة، وعن كل الأعراف المعتبرة في العلاقات الدولية، سنتحدث إذن عن أن منطق القوة هو البديل عن القانون، منطق القوة هو الوسيلة الكلاسيكية للإمبريالية وأذرعها في الهيمنة الدولية. منطق القوة يستتبعه منطق الإهانة. ففي زمن المهانين بتعبير برتراند بادي، وزمن الذلقراطية والميغا-إمبريالية، لم يعد هناك من ضامن للكرامة غير مقاومة الهيمنة ودحض مغالطاتها، فالمقاومة هي في جوهرها مقاومة ضد المغالطة.
منطق الإهانة يقتضي سيادة التفاهة. في الشرق الأوسط لم يعد مهماً رفع شعار المظلومين بناءً على الحجاج المنطقي، ففي سوريا مثلا هناك رغبة دولية للثأر من شعب أدركوا منذ البداية أنه هو من منح لقيادته قدرة على الصمود امتدت لمدة 13 عاما. كان من الصعوبة بمكان إقناع القطيع البشري ضحية البروباغاندا، بأن شعار نصرة الشعب السوري هو أكبر خدعة استعملتها الإمبريالية وذيولها للنيل من آخر قلاع الصمود العربية، وهتك نسيجه الاجتماعي. لقد خربوا خمسين سنة من البناء والمكتسبات والسيادة. مخرجات اللعبة باتت واضحة، فاليوم يتم استعمال الرصاص الحي ضد المتظاهرين المدنيين الذين ينشدون الحرية والاصلاح، ولا أحد من تماسيح الثورجية يتحدث عن محنة شعب عبثوا بمصيره، ولا أحد سيحاسب حكومة “القاعدة” على مفارقات المشهد، ذلك لأن انتفاضة الشعب السوري اليوم وثورة أهالي بيت الجن، ليست لها دارقة إقليمية ودولية، وان احرجتهم تلك العملية وأثارت في البعض غريزة ركوب موجة الأحداث.
لم يعد هناك شعب سوري، لقد اختفى من التداول، لقد سلم للقاعدة المتحورة، وأصبح مصير الشعب السوري في يد الغزاة.
تحتاج المغالطة دائما إلى حراس من النمط الميلونكولي الصفراوي، إنهم يزفون المغالطة بعناد فوق الرؤوس، وكما قلنا لهم دائما: أيها العبيد، مبارك عليكم انتصار مؤامرتكم، هنيئا لكم الولوج إلى زمن الذل. مهما انتفخت أوداجكم، فإن التأريخ قد سجل مسبقاً أنكم سارقون.
إن مغالطة أننا جئنا على إثر وضعية صعبة، ونحتاج إلى مزيد من الوقت، هي مبررات سبق ورفضتها الثورجية من قبل. ما الذي ينقصكم يا “بلا منطق”؟ فأما الشرق والغرب فكله معكم، ومن تدبروكم وساكنوكم وصنعوا قراراتكم، هم من اختاروكم للمرحلة. فلقد عيرتم الأسد بنعامة في الحرب، هو من خاض أكبر تحدٍ ومواجهة عربية، معه لا أحد أمكنه التقدم منذ معاهدة وقف النار، دون أن يوقع، على من يكذب هؤلاء الحاقدون الذين مرضوا بعقدة الأسد؟ لقد علقتم فشل مخططكم على التدخل الإيراني، فها أنتم متفردون اليوم بالساحة والقرآن كما تزعمون، فماذا عساكم تفعلون أمام تقدم أسيادكم، لقد استقبلكم القيصر من البوابة الخلفية ووضعكم في المنزلة الأدنى من لعبة الأمم. إنها المغالطة العارية، في شرق أوسط جديد مولع بالشطح الإمبريالي. من احتفل بسقوط سوريا، لم يكن معنياً بمصير شعب وبلد، أي معنى بقي لمن رقص على كل الحبال؟.
لم يحدث شيء لم نتوقعه، في حال أنهم ظفروا بإسقاط دولة ممانعة. هذه مخاوفنا السابقة من سقوط قلعة الصمود، لهم أن يدركوا بأنهم يمتطون اليوم حمار المغالطة، وإلا ماذا يا ترى فعلتم، سوى أنكم ركبتم الخيانة العظمى، وتحولتم إلى شحاطة في قدم الاحتلال، لم تفعلوا شيئاً ثكلتكم أمهاتهم.
من جهة أخرى، أتفرج في صراع الديكة، مرة أخرى، هنا في لبنان الصامد المبتلى بالضجيج المسموم، مسرح مفتوح للتهريج والحقد، وكأن مشكلة الدولة انحلت، ولا تحتاج سوى إلى لعبة حصر السلاح. في تأريخ الأمم، لا حديث عن حصر السلاح إلا بعد تحقق الدولة المركزية بشروطها الضامنة للسيادة. جوهر القضية هو حفظ السيادة، فإذا ما تحققت السيادة بالمقاومة، فذلك هو المطلوب. الدجل السياسي المتكامل مع سطوة الاحتلال، هو تجسيد لروح عصر الإهانة.
المقاومة هي مكسب تأريخي لا يمكن تقييمه من خلال حسابات الانتصار الدولتي الكلاسيكي، المقاومة الحقيقية هي من تملك أن تنهض من جرحها، فالمقاومة لا تنتهي بضربة غادرة من عدو، ولا بطنين شامت من بنات عرس، بل تكمن قوتها في القدرة على المواجهة الدائمة القائمة على ابتكار عناصر الصمود. والحرب النفسية التي يخوضها الطابور الخامس، مستقويا بالضربات الاستعراضية للاحتلال، تؤكد على أن الاحتلال يعرف ماذا يعني صمت المقاومة الجريحة.
في زمن الأزمة ترتفع أصوات الجداجد، ولا أحد يوقف صريرها الليلي. لكن حين يجد الجد، سيدرك العالم أن هناك قواعد اشتباك على الطريق. من هم القردة الذين يستضعفون الأسود في زمن التحدي الأكبر؟!.
فلتستمر المغالطة، وقلب الحقائق، وصرير الجداجد، وتجار الأزمات، ففي النهاية، من يصنع المجد هو من يصنع الحدث على الأرض، هم فرسان النوازل والصعائب.
هناك ألسن طولى، سيقطعها مكر التأريخ، فانتصار المقاومة حتمي، لأن المقاومة تنتصر منذ قيامها، وما تبقى هي تفاصيل معادلة الصراع. وعليه، للمقاومة المجد، ولخصومها الحجر.



