اراء

قمة “مودي – بوتين” في نيودلهي.. محطة مفصلية تعيد رسم مستقبل العلاقات الهندية – الروسية

بقلم: وائل عوّاد..

تعود بنا الذاكرة إلى عام 1971، خلال الحرب الهندية الباكستانية، حين وقفت الهند أمام اختبار وطني حاسم خلال حرب تحرير بنغلادش، يومها لم تنتظر نيودلهي موافقة من الشرق ولا مباركة من الغرب. كانت البلاد تشق طريقها بثقة، وتحدد مصالحها دون وجل أو تردد. وفي ذروة الأزمة، حين وقّعت رئيسة الوزراء الراحلة أنديرا غاندي معاهدة السلام والصداقة مع الاتحاد السوفيتي، انفجرت واشنطن غضبًا. ولم تتردد في إرسال الأسطول السابع إلى خليج البنغال لإرهاب الهند وثنيها عن مسارها، لكن الهند لم تنحنِ، أمة بهذا الحجم، بتلك الكثافة السكانية والطموح التأريخي، لم تولد لتكون تابعًا لأحد.

تلك اللحظة لم تكن مجرد فصل من التأريخ؛ لقد أصبحت حجر الأساس لفهم الهند لذاتها ودورها في العالم.

واليوم، تتكرر الضغوط بطريقة مختلفة، وإن تغيّر اللاعبون وتبدّلت أدواتهم. تتحدث الولايات المتحدة عن تحالفات المحيطين الهندي والهادئ والشراكات الاستراتيجية، لكن خلف هذه اللغة الناعمة يكمن جوهر اللعبة القديمة: توقع أن تُعيد الهند اصطفافها بما يخدم مصالح الآخرين، وأن تتخلى عن علاقات متجذرة تخدم مصالحها الوطنية بمجرد إشارة تأتي من واشنطن.

ومثلما رفضت الهند في 1971 أن تُدار من الخارج، ترفض اليوم فكرة أن تأتي قراراتها من وراء المحيط.

خفض مشترياتها من النفط الروسي ليس رضوخًا للعقوبات الأمريكية، بل خطوة هندية خالصة، نابعة من حسابات اقتصادية وسياسية واعية. الهند لا تشتري النفط الروسي بدافع الحنين إلى الماضي، بل لحاجتها إلى طاقة بأسعار يمكن لاقتصادها تحملها. ومع تغير الظروف، ستتغير السياسات- لكن وفق ما تقرره نيودلهي، لا ما يمليه أحد عليها.

ولا تزال روسيا، رغم كل التحولات، شريكًا أساسيًا للهند، ليس لأن التأريخ يشدّها إلى الوراء، بل لأن تنويع الشراكات هو صمام الأمان لاستقلالها الاستراتيجي. اليوم الذي تعتمد فيه الهند كليًا على الأسلحة والتكنولوجيا الأمريكية هو اليوم الذي تتخلى فيه عن جزء من حريتها. والهند لم تُبْنَ لتعيش بهذا الشكل، ولا لتسمح لقوة واحدة-مهما عظمت-باحتكار أمنها وقراراتها.

الهند ليست ضد الولايات المتحدة. بل على العكس: تسعى إلى علاقات قوية معها، ومع أوروبا، وروسيا، والصين، والعالم بأسره، لكن على أساس الندية، على أساس الاحترام، على أساس أن تُعامل كقوة صاعدة لا كدولة تابعة.

ترفض الهند عالمًا تُملي فيه قوة واحدة شروطها على الجميع، وتتحول فيه العقوبات إلى سلاح يومي لفرض الإرادة على الدول الأخرى. العالم متعدد الأقطاب ليس شعارًا ترفعه الهند؛ إنه ضرورة لها، وإحدى اللبنات التي تبني عليها رؤيتها لمستقبلها ودورها.

سبعة عقود من التحالف البراغماتي

ترتبط الهند وروسيا (والاتحاد السوفيتي سابقًا) بإرث طويل من التعاون يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث لعبت موسكو، دورًا مركزيًا في دعم نيودلهي سياسيًا وعسكريًا خلال مراحل حساسة من تأريخها. وفي العقود التالية، تحولت روسيا إلى المصدر الأساسي للسلاح الهندي، ومنحت الهند امتيازات استراتيجية في مجالات الطاقة النووية والفضاء والدفاع.

ومع نهاية الحرب الباردة وبزوغ الولايات المتحدة كشريك اقتصادي وعسكري مهم للهند، لم تتراجع مكانة موسكو في السياسة الهندية، بل تحولت العلاقة إلى شراكة استراتيجية خاصة قادرة على التكيف مع التحولات الدولية. ومع صعود آسيا كمركز ثقل عالمي، حافظت نيودلهي على مقاربتها التقليدية القائمة على تنويع الشركاء لا استبدالهم، وهو ما جعلها تستمر في تعزيز التعاون مع روسيا حتى مع تزايد ارتباطها بالغرب.

يمنح هذا الإرث التأريخي القمة الحالية عمقًا إضافيًا، ويضع العلاقات بين البلدين في إطار يتجاوز اللحظة الجيوسياسية الراهنة نحو رؤية طويلة الأمد.

لم تعد العلاقات بين البلدين محصورة في التعاون العسكري التقليدي. فالمرحلة المقبلة تحمل ملامح توسع استراتيجي يشمل:

شراكات تكنولوجية متقدمة في الدفاع والفضاء والذكاء الاصطناعي.

تعزيز التعاون في البنية التحتية والطاقة والنقل عبر القطب الشمالي، حيث تمتلك روسيا، حضورًا مؤثرًا في الممرات قطبية المستقبل.

تنويع آليات التبادل المالي بعيدًا عن تأثير العقوبات الغربية، مع زيادة استخدام العملات الوطنية.

توسيع الدور الهندي في المنصات الإقليمية التي تقودها موسكو مثل منظمة شنغهاي للتعاون.

يعكس هذا التحول رغبة البلدين في بناء “شراكة مرنة” قادرة على الصمود في وجه إعادة تشكيل النظام العالمي.

وفي ظل تأكيد قمة المناخ الجارية على ضرورة تسريع التحول نحو مصادر طاقة نظيفة ومنخفضة الانبعاثات، تتصدر الطاقة النووية المدنية أولويات القمة. وتعتبر محطة كودانكولام للطاقة النووية أكبر مشروعات الهند النووية، وتجسيدًا مباشرًا للتعاون الهندي-الروسي الممتد.

تدرك نيودلهي أن موقعها الجغرافي والسياسي يجعلها لاعبًا محوريًا في التنافس بين واشنطن وبكين وموسكو. فهي بحاجة إلى التكنولوجيا والاستثمارات الغربية من جهة، وإلى الشراكة الدفاعية والتنسيق الأمني مع روسيا من جهة أخرى. وفي ظل تشدد العقوبات الغربية على موسكو، وتراجع واردات الطاقة الروسية عالميًا، وجدت روسيا في الهند شريكًا موثوقًا قادرًا على تأمين قناة اقتصادية وسياسية مستقرة.

خلاصة القول:

تقف العلاقات الهندية-الروسية اليوم أمام لحظة فاصلة، إذ تسعى نيودلهي إلى موازنة شبكتها الواسعة من الشراكات العالمية دون التفريط في استقلالية قرارها، بينما تعمل موسكو على إعادة بناء تحالفاتها خارج الفضاء الغربي. وفي هذا السياق، تكتسب قمة مودي-بوتين في نيودلهي قيمة تتجاوز نتائجها المباشرة، لتتحول إلى جزء من معادلة استراتيجية جديدة تتشكل في آسيا والمحيط الهادئ، وقد تفتح الباب أمام شراكة أكثر مرونة وصلابة في عالم يعاد تشكيله على وقع الأزمات والتحولات الكبرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى