مَنْ يَظلِم يُظلَم

ليس هناك إنسان يُعفى مما ارتكبه من أذى وشرّ تُجاه الآخرين، ولا فرق في هذا بين كبير وصغير، بين كهل أو طفل، الكل مسؤولون وسوف يُسألون أمام الله عمّا ارتكبوه من ظلم بحق الآخرين، حتى الطفل الذي قد لا يعي ما يفعله، أو غير مكلَّف، سوف يُحاسَب عمّا يقوم به من أعمال وأفعال إذا كانت تحمل الشر والظلم في طيّاتها.
فهذه الرؤيا التي تخص محاسبة فاعل الظلم لا تخص فئة بعينها، ولا دخل للمرحلة العمرية في ذلك، الجميع سواسية أمام القضاء الإلهي، حتى أولئك الذين قد يتذرعون بأنهم لا يعرفون أو لا يدركون أو لا يعلمون بما يقومون، لن يفلتوا من الحساب، وفي هذا الأمر درس وتحذير للجميع من دون استثناء أن لا يرتكبوا ظلوما أو أذى بحق الآخرين، لأن الحساب الإلهي لهم بالمرصاد، وأن جميع الأعذار لن تخلّصهم من العقاب، فمن يَظلِم سوف يُظلَم حتما.
إن الظلم نوع من أنواع الشرور، ولا يصح أن يُنظَر له على أنه شيء عابر، أو شيء يمكن التغاضي عنه، لأن من يقوم به لا يُدرك عواقبه وتأثيراته على الآخرين، وهذا يعني أن على جميع الظالمين أن يستعدوا لتلقي وطأة الظلم التي ألحقوها بالآخرين سواء عن قصد أو من دون قصد، أما السبب الإلهي في ذلك، هو البناء السليم للأمة وللمجتمع.
الظالم سيتلقى العقاب آجلاً أم عاجلا
أما لحظة تلقّي العقاب الإلهي فإنها قد تؤخَّر حتى تحين الآخرة، وهذا يعني أن الله تعالى قد يؤجّل عقاب الظالمين إلى ما بعد الدنيا، ولكن الأمر المحسوم، أن من يظلم الناس سوف يتلقى عقابه سواء تم ذلك في الحياة الدنيا أو في الآخرة، وهذا ما يظهر لنا في الآيات القرآنية الكريمة وفي الروايات الشريفة، حيث يكون الانتقام من الظالمين أشدّ عذاباً مما يتلقونه في الحياة الدنيا، فالأمر الثابت إن مرتكِب الظلم سيلاقي عواقب ظلمه حتما.
وكما يبدو هنالك قانون تكويني وإرادة إلهية في محاصرة الظلم والظالمين والتصدي لهم بالعقاب المستحَق، والهدف من ذلك بناء حياة أفضل تقوم على العدل الإلهي، حتى لا يسود الظلم بين الناس، وحتى لا يتحول العالم إلى غابة يظلم فيها القوي الضعيف.
مع أن الإنسان يجب أن يعرف بأن العقاب والثواب سوف يكون بقدر الفعل أو العمل، فإن كان خيراً سوف يُجزى به الإنسان خيراً يوازي عمل الخير الذي قام به، وإن كان شراً فإنه سوف يحاسَب ويعاقَب بمقدر الشر الذي ارتكبه وآذى به الآخرين.
ولا يُهمل هذا العمل (خيراً كان أو شراً) حتى لو كان بمقدار ذرة، وهي متناهية الصِغَر، ولا تُرى بالعين المجرَّدة إلا في حالات معروفة، أي حين يدخل خيط الضوء من ثقب في السقف أو الجدار، سوف يرى الإنسان هذه الذرات تسبح في حيّز الضوء الصغير، وهي صغيرة جداً، ولا يراها الإنسان إلا من خلال خيط الضوء الداخل من الثقب.
والهدف من هذا التوصيف القرآني تحذيري يؤكد للإنسان بأن الشر أو الخير لا يُهمَل حتى لو كان بمقدار ذرّة، ولهذا على الإنسان كبيرا كان أم صغيرا، قويا أم ضعيفا، غنيا أم فقيرا، عليه أن يحتاط من ارتكاب الشر ولا يظلم مطلقا، لأن الظلم ليس هواءً في شبك، بل هو فعل بالغ الخطورة يؤدي إلى تدمير الإنسان والكون برمته، وهذا ما لا تسمح به الإرادة الإلهية، لهذا يعاقَب الإنسان أو يُثاب على فعله وعمله بمقدار ما يستحق من ثواب أو عقاب.
الناس بين الإثابة والعقوبة
كما يجب أن يفهم كل إنسان بأن عمل الخير أو الشر، لا علاقة له بالمقدار أو الحجم، كبيراً كان أم صغيراً، فلا يُستثنى أي عمل ولا أي فعل من الإثابة أو العقوبة، لذلك يجب على كل إنسان أن يعي هذه الحقيقة جيداً، ويُطلقُ أعماله وأفعاله وحتى أقواله في ضوء هذه المعادلة، لأن اللفظ يمكن أن يكون مصدراً للخير أو مصدراً للشر، لذا عليه أن يسيطر ويتحكم بلسانه، مثلما يجب عليه أن يتحكم بأعماله وأفعاله كي لا تصبح مصدراً لظلم الآخرين.
ويتميز التأكيد الإلهي بدقة قصوى في خصوص أفعال وأعمال الخير والشر، لدرجة أننا قد نستغرب أو لا نتوقع بأن نظرة حادة يقوم بها الإنسان قد تجعل منه إنساناً ظالماً، لأن النظر الحاد يُدخل الرعب في نفوس وقلوب الناس، فحتى هذه النظرة الحادة التي قد يرى بعضهم بأنها غير مؤذية، لكنها سوف تدخل الحساب الإلهي وسوف يعاقب عليها من يقوم بها حتى لو لم يلحق ضرراً مادياً في الناس الآخرين.
إلى هذه الدقة العالية يطالبنا القرآن الكريم كتاب الله الحكيم أن نفكر كثيراً حتى في طبيعة النظرة التي ننظر بها إلى الناس، فهي قد تكون مؤذية وقد تكون نظرة خير تشيع في نفوس الناس السكينة والطمأنينة، إذا كانت نابعة من نفس نقية مؤمنة تخاف الله تعالى.



