اراء

الأفارقة ينتفضون بوجه “التطبيع”.. الجرائم لا تسقط بالتقادم

بقلم: سليم بوزيدي..

في الجزائر يجتمع الأفارقة هذا الأسبوع، للمرة الأولى للخروج بـ”مانفيستو” بوجه المنظومة الغربية، التي حاولت على مدار عقود تكريس ثقافة وسياسة “التطبيع”، مع نسيان الجرائم الاستعمارية، في مؤتمر دولي هو الأول من نوعه، يلتئم فيه قادة ووزراء وخبراء أفارقة، ومن مناطق أخرى لشعوب من أصول أفريقية، والهدف هذه المرّة الوصول بالمظلومية الأفريقية التأريخية إلى ساحات المحاكم الدولية.

ضمن مقاربة، تجمع بين الاستثمار في التحوّلات الجيوسياسية التي تشهدها القارة الأفريقية، خلال السنوات الأخيرة، لجهة تنامي النزعة السيادية، التي تتبنّى رفض وجود قوات أجنبية في المنطقة، وتحديداً في الساحل الأفريقي، والمسار الذي أطلقته في إعادة ترتيب علاقته مع مستعمر الأمس، تسعى الجزائر إلى تكثيف وتفعيل التحرّك الأفريقي، في محاربة آثار وتبعات الاستعمار في القارة السمراء، من خلال العمل على إنشاء بنية قانونية وسياسية تشكّل قاعدة التحرّك لإعادة وضع الظلم التأريخي الاستعماري الذي تعرّضت له أفريقيا على طاولة الأجندة الدولية من بوابة الاتحاد الأفريقي بأعضائه ومؤسساته كافة.

ضمن هذا السياق تحتض العاصمة الجزائرية يومي 30 تشرين الثاني والفاتح من كانون الأول الداخل، المؤتمر الدولي الأول لجرائم الاستعمار في أفريقيا، بحضور قادة ووزراء، وخبراء وحقوقيين أفارقة، ومن منطقة الكاريبي، تنفيذاً لمقترح كانت الجزائر قد تقدّمت به خلال قمة الاتحاد الأفريقي المنعقدة خلال شهر شباط الماضي بأديس أبابا، لعقد مؤتمر تحت عنوان “العدالة للأفارقة والمنحدرين من أصل أفريقي من خلال التعويضات“.

الجزائر ترافع لـ”محاكمة تأريخية” للاستعمار في أفريقيا

يشكّل احتضان العاصمة الجزائرية للمؤتمر الدولي الأول لجرائم الاستعمار في أفريقيا، حدثاً رمزياً مكثّفاً بالأبعاد التأريخية والاعتبارية، والأهم تتويجاً لمسار طويل من النضال ضدّ سردية المستعمر الغربي لتطبيع “ثقافة النسيان”، وفي هذا السياق يمكن وضع الاشتباك والتشنّج البنيوي الذي يطبّع العلاقات الجزائرية الفرنسية، على اعتبار أنّ أحد أهم مطالب الجزائر للوصول إلى علاقات طبيعية مع باريس، هو طيّ ملف الذاكرة، عن طريق الاعتراف والاعتذار والتعويض.

النقطة الثانية التي تعطي هذا المؤتمر، زخماً سياسياً ودبلوماسياً، هو تأريخ الجزائر الطويل في دعم حركات التحرّر الوطني، ومعركتها المبدئية تجاه التدخّلات الأجنبية، كلّ التدخّلات الأجنبية في القارة الأفريقية، المستعمر القديم منها، الذي خاضت ضده الشعوب الأفريقية معركة شرسة لنيل استقلاها السياسي، والحديث المتدثّر بعباءة المساعدة والحماية من الجماعات الإرهابية وما لفّ لفيفها.

جرائم الاستعمار في أفريقيا.. انتهى زمن الشعارات

من خلال جدول أعمال المؤتمر الذي وزّعته الخارجية الجزائرية، يتضح جلياً حرص القيادة الجزائرية على مغادرة مربّع المطالبات والمرافعات الصوتية، إلى البحث عن ورقة طريق عملية، ترفع ملف محاربة جرائم الاستعمار إلى أولوية لكلّ الدول الأفريقية، من خلال تحويل الورشات الفنية المهنية للمؤتمر، إلى تشكيل ما تسمّيه الجزائر “بنية العدالة التأريخية الأفريقية”، التي تشمل بشكل رئيس، تجريم الاستعمار والعبودية، والتمييز العنصري ونظام الفصل العنصري، بوصفها جرائم ضدّ الإنسانية، والتي ستتوّج بمنصة حوار دائمة تعمل على تكريس مبدأ الاعتراف بالجرائم الاستعمارية ضدّ القارة الأفريقية، وصولاً إلى الاعتراف والتعويضات.

الاستعمار في أفريقيا.. الجرائم العابرة للأجيال

وستكون مناقشة مفهوم “الصدمات العابرة للأجيال”، أحد أهمّ المقترحات الموضوعة على الطاولة، على قاعدة ربط الماضي الاستعماري الغربي الأليم، بتداعيات الحاضر الأفريقي البائس، وذلك من خلال تفكيك البنى العميقة للمظلوميّة الأفريقية الحقّة.

وقد يكون التخريب الممنهج الذي مارسته القوى الاستعمارية على الإرث الثقافي والحضاري، وما زرعته من فخاخ، يُعتبر من أكثر التحدّيات تعقيداً التي لا تزال تواجهها الدولة الوطنية الأفريقية، واستحضار المثال الجزائري هنا يعبّر بشكل عميق، عن خطورة “الصدمات الثقافية والهوياتية العابرة للأجيال”، رغم أنّ الجزائريين نجحوا في الامتحان الأصعب، وهو الحفاظ على هويتهم العربية الأمازيغية الإسلامية الصلبة، إلا أنّ ذلك لم يمنع، من استمرار حضور آثار هذه الفخاخ في المشهد الثقافي والتعليمي، وغالباً ما تتمظهر هذه الأزمة، في صراعات وتناقضات أيديولوجية بين التيارات السياسية الوطنية المحافظة، والأحزاب التي ترفع شعارات وترافع عن مقولات العلمانية والحداثية.

القضية الثانية في تركة الإرث الاستعماري المسموم، هو تخبّط التجربة السياسية وتشوّهها السياسي والمؤسساتي، بفعل استمرار حضور نفوذ وتأثير اللوبيات الاستعمارية داخل غالبية الدول الأفريقية، وانتفاضة دول الساحل مؤخّراً، كانت انبعاثاً واعداً للروح الوطنية السيادية الأفريقية التوّاقة للانعتاق من تدخّل القوى الاستعمارية في القرار السياسي الأفريقي.

إعلان الجزائر.. أكبر من مجرّد وثيقة أمام قمة الاتحاد الأفريقي

لا تُخفي الدبلوماسية الجزائرية رغبتها وطموحها، في خروج المؤتمر الدولي الأول لجرائم الاستعمار في أفريقيا، بوثيقة تأسيسية سيطلق عليها “إعلان الجزائر” لإنصاف أفريقيا والمنحدرين من أصول أفريقية، من خلال اتفاق القادة والوزراء المشاركين في المؤتمر، على ورقة طريق موحّدة في لغة خطابها السياسي، وآليات عملها، والدول والجهات المنوط بها التحرّك عملياً لتنفيذ هذه الرؤية.

ولإعطاء “إعلان الجزائر”، القوة السياسية اللازمة لتحويله إلى آلية مؤسساتية، ينتظر أن يعرض الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مخرجات وثائق المؤتمر على قمة الاتحاد الأفريقي المزمع عقدها في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في شهر شباط المقبل، على أن يكون ترسيم إعلان الجزائر لمحاربة الاستعمار في أفريقيا من قبل القادة الأفارقة البداية الفعلية لتحرّك سياسي وقانوني، على مؤسسات القانون الدولي، وقد تكون محكمة العدل الدولية واحدة من ساحات تجسيد رفع الظلم التأريخي عن أفريقيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى