البطانة السيئة.. فايروس المشاهير

محمد علي جواد تقي..
قال رسول الله “صلى الله عليه وآله”: “احثوا في وجوه المدّاحين التراب”.
يفترض ان تكون مهمة “البطانة” في النسيج الاجتماعي ايجابية، عندما تكون مجموعة أفراد أمناء على ما يمتلكه فرد من ابناء جلدتهم، من ثروة مادية سواء أموال وعقارات، وثروة معنوية من جاه وسمعة، فهو يستبطنهم ليردّوا عنه كيد الحاسدين والحاقدين، وفي بعض الأحيان بوسعهم أداء دور المستشار، بيد إن إصابة البعض بلوثة مالية مفاجئة تحول هذه المهمة الانسانية والأخلاقية من الخير والصلاح، الى الفساد والإفساد.
بسبب هيمنة السياسة على معظم مفاصل الحياة، وتحول الرجل السياسي الى عنصر مؤثر في مسار الاقتصاد، والتعليم، والأسرة، والأمن، والقانون، وحتى الدين احياناً، راج مصطلح “البطانة السياسية” في الخطاب الاعلامي بشكل واسع للتعريف بالقاعدة التي يقف عليها رجل السياسة، وهو ما نلاحظه في البلدان التي مازالت تشتري ثقافة “السيد والعبد”، ولو بلون مستحدث عما كانت عليه في الجاهلية التي قضى عليها الإسلام.
ومع تعدد الوجوه المؤثرة في الحياة، تعددت معها “البطائن” كلٌ له اختصاصه في كيفية إدارة المشهد بشكل يكسب رضا صاحب الشأن من خلال عمليات تجميل وتزلف وتزويق مقابل بعض المنافع المادية، فبات من الممكن رؤية بطانة لشيخ عشيرة مثلاً أو لمدير دائرة أو لقائد عسكري، أو رجل أعمال، أو حتى رياضي متميز، أو فنان متألق، بل ويصل الأمر حداً في الاختراق الفايروسي الى من هم مسؤولون عن فكر وعقيدة الناس من كتاب وخطباء وعلماء دين.
الشعار المهني المتفق عليه لمجموعة هذه البطانات لساداتهم: التفوق على الآخرين بالأفضلية، فـ”أنت أفضل من الآخرين”، و”أكثرهم عطاءً، وعلماً، وكفاءة، وجدارة”، و”أنت يجب أن تكون دون غيرك”، وأية كلمة أخرى من شأنها رسم صورة خيالية في أذهان الناس، وبقدر التضليل والتغرير يكون التحكم بمصائر الناس وعقولهم.
لكن لماذا يفعلون هذا؟
وهل نحن أمام نوع من المهنة يتخصص فيها المداحون والطبالون وأصحاب “خفق النعال خلف الرجال”، كما وصفهم أمير المؤمنين “عليه السلام”، ربما يكون صاحب الشأن غير قاصد بتكوين بطانة سيئة له، فهو لانشغالاته يحتاج الى طاقم أو فريق عمل يعينه على تحقيق النجاح في أعماله، لكن ما أن يرشح شيء من المال والشهرة تكونت البؤرة السرطانية في هذه الدائرة أو تلك المؤسسة، فهو يتناول كلمات المديح والإطراء دون أن يستشعر بطعم غريب لسبب بسيط واحد؛ أنه يعد هذا من حقه، فقد بذل وتعب حتى وصل الى هذه المرحلة من الشهرة والتأثير في المجتمع، فما الضير في مزيد من الانتشار لتحقيق أهداف يعدها مقدسة أحياناً؟.
منهج التضخيم هذا يؤدي الى مساوئ عدّة أهمها:
1- تهميش كفاءات وقدرات بعيدة عن الاضواء لأسباب مختلفة، ربما لعصاميتهم وتواضعهم، فأحياناً تكون هذه البطانة وراء محاولات إقصاء منافسين أو الحؤول دون اقترابهم الى صاحبهم لتكوين صداقة أو علاقة عمل أو غير ذلك.
2- غياب المعايير الصحيحة لتقييم الأشياء، مما يسهل عملية تحويل الباطل حقاً، والحق باطلاً، وتغيير مسار المفاهيم الأخلاقية الى غير وجهتها الانسانية المنصوص عليها، فيكون الصدق والأمانة والعدل والإنصاف والإحسان في غير محلها، فهي موجودة لكن دون روح تعطي الانسان العادي القوة ليبعد عن نفسه شبح الفقر والجهل والحرمان، لأنها تخدم فقط من تستهدفه البطانة في أعمالها الدعائية والخيرية.
3- والأمر الآخر الأكثر خطورة؛ إبعاد أي لون من النقد والملاحظة على أقوال وأفعال صاحب هذا النمط من الشخصية، ليكون في نظر الناس هو محور القيم والمعايير، وليس سليماً توجيه النقد اليه لمبررات يسوقونها بطرق شتى.
رسول الله “صلى الله عليه وآله” وهو على ما كان عليه من المنزلة السماوية، والمنزلة الاجتماعية، وكانت العظمة فيه تسير على قدمين في المدينة، لم يكن يسمح لأحد بأن يمتدح شخصه الكريم بالمرة، بل كان يشجع على الشعر؛ الوسيلة الاعلامية الوحيدة في ذلك الزمان، ويحثّ الشعراء على مدح الرسالة والقيم الاخلاقية والدينية التي جاء بها، ولذلك قال: “احثوا في وجوه المداحين التراب”، فالقائد والوجيه والمدير والعالم الحقيقي لن يكون بحاجة الى تلوين وترويج، فهو كالشمس الساطعة تخترق كوامن القلوب قبل زوايا البيوت.



