اخر الأخباراوراق المراقب

الأمر بالمعروف مصلحة للعامة

أحمد عبد زيد الجبوري..

تخيّل نفسك في قارب وسط البحر، وفجأة تجد أحدهم يحاول خرق جزء من القارب تحت مقعده بحجة، أن هذا الجزء ملكه الشخصي، هل تسمح له بذلك؟ قطعا لا! لأن ضرر هذا الخرق لن يقتصر عليه، بل سيغرق القارب بمن فيه.

وهذا تماماً ما عبّرت عنه سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء (عليها السلام)، في خطبتها الخالدة حين وضعت الإصبع على جوهر المسألة بقولها: (والأمر بالمعروف مصلحة للعامة)، فكأنها تشير إلى أن ترك المنكر يشبه السكوت عن خرق القارب، وأن الأمر بالمعروف هو ما يمنع غرق السفينة الجماعية.

فهذا التعبير لا يحدد الأمر بالمعروف كواجب فردي فحسب، بل يرفعه إلى مرتبة المصلحة العامة التي لا يستقيم المجتمع بدونها، إنه ليس تدخلا في شؤون الآخرين، بل هو ضريبة الحفاظ على البقاء الجماعي، وضمانة لسلامة الأمة من الغرق والانهيار.

المظلة القرآنية: خير أمة أُخرجت للناس

إن الأمر بالمعروف ليس خياراً ثانوياً، بل هو صفة أصيلة لأفضل الأمم على الإطلاق، لقد نص القرآن الكريم بوضوح على أن هذه الفريضة هي المعيار الذي يميز أمة الإسلام: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).

لقد قدمت الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله عند ذكر صفات هذه (الخيرية)، ليس لأنه أهم من الإيمان، بل لبيان أنه الثمرة الظاهرة والبرهان العملي لهذا الإيمان، فالإيمان يزرع في القلب، بينما الأمر بالمعروف يثمر في المجتمع صلاحاً واستقامة، وعليه، فإذا كفت الأمة عن الأمر بالمعروف، فقدت بذلك مبرر وجودها وفقدت صفتها المميزة (خير أمة).

هذا المبدأ لم يقتصر على آية واحدة، بل كرره القرآن الكريم، مؤكداً، أن الفلاح رهين بهذه الحركة الإصلاحية، ففي سورة أخرى، قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).

وهذا يدل دلالة واضحة على أن الفلاح الحقيقي لا يتحقق إلا بالمشاركة الفاعلة في إصلاح المجتمع، من خلال ثلاثية متكاملة تبدأ بـ:

1- الدعوة إلى الخير: هي المرحلة الأوسع والأشمل، وتعني نشر المبادئ الحسنة والدعوة إلى الإسلام وكل ما فيه نفع للناس في دينهم ودنياهم، تعد هذه الدعوة أساساً وقائياً يمهد لتقبل الأوامر والنواهي.

2- الأمر بالمعروف: هو المطالبة بتطبيق الواجبات الشرعية والأخلاقية والإنسانية، بما يعزز القيم الإيجابية في المجتمع ويضمن سير الأمور على وجه الاستقامة.

3- النهي عن المنكر: يأتي ليكمل البناء، حيث يعني المنع والمقاومة لكل ما هو قبيح في الشرع والعقل، مثل الظلم والفساد والمنكرات الاجتماعية، حفاظاً على نقاء المجتمع من الانحراف والتدهور.

أساس الفريضة.. حكمة الزهراء “عليها السلام” في بيان المقاصد

في خطبتها الفدكية، لم تكتفِ الزهراء (عليها السلام) بذكر العبادات، بل ربطت كل عبادة بأثرها الاجتماعي، لتظهر أن الدين ليس طقوساً معزولة، بل منظومة متكاملة تُعنى ببناء الإنسان والمجتمع، فعندما قالت (عليها السلام): (والأمر بالمعروف مصلحة للعامة)، كانت تشير إلى أن هذا الفعل ليس مجرد واجب ديني، بل هو ضرورة اجتماعية تحفظ التوازن، وتمنع انهيار الأمة، وتشعر الجميع بالمسؤولية تُجاه بعضهم البعض.

وقد حذرت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من خطر السكوت على الانحرافات والظلم، حتى إن صدرت من أعلى سلطة حاكمة، مؤكدة، أن الأمة يجب أن تمارس حقها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتباره مصلحة عامة لا يستغنى عنها في حفظ كيان الأمة.

وهذا ما أكده أهل البيت (عليهم السلام) في كلماتهم النورانية، حيث قال الإمام الباقر (عليه السلام): (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر)، هذا الحديث يختصر فلسفة الإصلاح الاجتماعي في الإسلام، ويظهر، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليسا فريضتين هامشيتين، بل هما العمود الفقري لاستقامة الدين والمجتمع، فبهما تصان الفرائض، وتضبط المعاملات، وتسترد الحقوق، ويعمر الوطن، وتردع العدوانية، ويحقق التوازن والاستقرار.

الأمر بالمعروف.. لا ينقص من الرزق ولا يقرب الأجل

من بين المفاهيم التي قد تعيق ممارسة فريضة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الخوف من تبعاتها الدنيوية، كأن يظن الإنسان أن النصح أو الاعتراض على الخطأ قد يعرضه لخسارة رزقه، أو يعجل في أجله، أو يسبب له أذى اجتماعيا أو سياسيا.

وقد تصدّى الإمام علي (عليه السلام) لهذا الوهم، فقال بوضوح: (إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، خلقان من خلق الله سبحانه، وإنهما لا يقربان من أجل، ولا ينقصان من رزق)، كلمة جامعة تزيل الحواجز النفسية، وتعيد للفريضة مكانتها، وتطمئن المؤمن بأن رزقه وأجله بيد الله، لا بيد الناس، ولا يتأثران بموقف حق أو كلمة صدق.

هذا التوجيه العلوي يرسخ، أن الأمر بالمعروف مسؤولية شرعية لا يجوز التهاون بها، وأن التخوف منها لا مبرر له شرعا، بل هو من وساوس الشيطان التي تثبط الهمم، وتضعف روح الإصلاح، وترسخ السلبية والحياد أمام المنكرات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى