غزة تكشف أولوية الاقتصاد على السياسة في مصر وتركيا

بقلم: هدى رزق..
كشف الصراع الدائر في غزة عن نقاط الضعف الكبيرة في مصر وتركيا، إذ على الرغم من دورهما التأريخي وطموحاتهما الإقليمية، بيّنت الحرب، الهشاشة الاقتصادية والقدرة المحدودة على التأثير في نتيجة الصراع، ما كشفت الفجوة بين خطابهما والواقع.
لقد كان رد مصر على حرب غزة، مقيداً بأزمة اقتصادية عميقة ومخاوف أمنية، ما حدّ من نفوذها وقدرتها على اتخاذ إجراءات حاسمة، بينما كشفت الخطابات الساخنة للرئيس أردوغان حدود الدور التركي، وعدم فاعليته في ظل ارتباط المصالح الاقتصادية بالغرب و “إسرائيل”.
وإذ ساهمت الحرب في غزة في تفاقم أزمة الديون الحالية في مصر، وسحب العملة الصعبة وزيادة الضغط على اقتصادها الذي يعتمد على المساعدات الخارجية أي التمويل الأجنبي، وكان آخرها صفقة قرض موسعة من صندوق النقد الدولي وحزمة مساعدات كبيرة من الاتحاد الأوروبي، ما أظهر اعتماد مصر على الدعم الاقتصادي الغربي والإسرائيلي في موضوع الغاز الأمر الذي أثر في تأديتها دوراً حاسماً وترددها في موقفها.
هذه العوامل مجتمعة جعلت مصر أكثر عرضة لإرادة القوى الغربية فيما يتعلق بالحرب. كذلك أدت الهجمات في البحر الأحمر إلى انخفاض كبير في إيرادات قناة السويس، في حين تأثرت السياحة سلباً أيضاً، ما زاد من إلحاق الضرر بمالية البلاد. راهنت مصر على عدم تخطي “إسرائيل” عتبة اتفاقية السلام، في غضون ذلك حاول نتنياهو دفعها إلى قبول نزوح الفلسطينيين إلى سيناء.
موقف مصر المعقد تُجاه “إسرائيل”، يوازن بين السلام والمعارضة الشرسة للنزوح، مدفوع بمزيج من المصالح التأريخية، والاحتياجات الاقتصادية الملحة، والمخاوف الأمنية والسياسية العميقة.
مصر بين الحفاظ على السلام ومنع التهجير
لا شك في أن الاقتصاد يلعب دوراً كبيراً في عملية الحفاظ على السلام، لا سيما إمدادات الغاز الحيوية، إذ أصبحت مصر تعتمد بشكل متزايد على واردات الغاز الطبيعي من “إسرائيل” لمعالجة نقص الطاقة المحلي وتمكين صادراتها إلى أوروبا، وتؤكد صفقة كبرى لعام 2025 لتوسيع واردات الغاز من “إسرائيل” هذه العلاقة الاقتصادية الحيوية.
كذلك، تتلقى مصر المعونة الخارجية في تأمين أكثر من مليار دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية السنوية، والتي تتوقف على معاهدة السلام مع “إسرائيل”. كما تعوّل على الفوائد التجارية من خلال اتفاقيات مثل المناطق الصناعية المؤهلة (QIZ)، فيما يعتمد الاستقرار الاقتصادي على السياحة والإيرادات من قناة السويس، وكلاهما مهدد بالصراع الإقليمي.
تتيح معاهدة السلام التعاون الأمني والاستخباري، لا سيما ضد الجماعات الجهادية في شبه جزيرة سيناء، ويساعد التنسيق العسكري المنتظم بين البلدين في إدارة النزاعات الحدودية ومنع التصعيد.
لكن، تخشى مصر زعزعة استقرار سيناء من أن يؤدي تدفق جماعي للفلسطينيين، إلى تهجيرهم وإنهاء القضية الفلسطينية فعلياً وتحويل مصر إلى ساحة صراع.
يعارض الرئيس السيسي، تصفية القضية الفلسطينية فيما تعمل “إسرائيل” على تهديد دور مصر كوسيط.
أضرت الحرب في غزة بالعلاقات المصرية – الإسرائيلية، إذ تصاعد خطاب مصر إلى حد وصف “إسرائيل” بأنها “عدو” بسبب “سلوكها المتهور”. قامت مصر بتحصين حدودها مع غزة بقوة، وبناء الجدران وزيادة المراقبة. سياسات نتنياهو حملت مصر على العمل على تحقيق التوازن بين مصالحها الوطنية والضغوط الإسرائيلية المتصاعدة.
لكن، رغم التصعيد في المواقف يبقي الصراع العسكري المباشر بين مصر و”إسرائيل” غير مرجح إلى حد كبير، إلا أن التوترات الأخيرة أدت إلى انتكاسة في العلاقة أكثر من أي وقت مضى منذ معاهدة السلام لعام 1979. يمكن لسوء التقدير وتصاعد الحوادث الحدودية، أن يشكلا مخاطر كبيرة. فأية ضربة لمصر قد تكون كارثية، وتؤدي إلى صراع أوسع وهو ما لا تريده مصر ولا “إسرائيل”.
يلعب الأمريكي دور الضامن لمعاهدة السلام لعام 1979، حيث تمارس الولايات المتحدة، ضغوطاً شديدة على كلا الجانبين، إلا أن تهديد “إسرائيل” بتهجير الفلسطينيين قسراً من غزة إلى سيناء شكل الخط الأحمر الأساسي لمصر، وينظر إليه على أنه تهديد مباشر لأمنها القومي وسيادتها.
وكانت الاشتباكات الحدودية التي وقعت في أيار 2024، بين القوات المصرية والإسرائيلية بالقرب من معبر رفح، أدت إلى تدهور خطير في العلاقات.
كما اعتبرت مصر استيلاء “إسرائيل” على ممر فيلادلفيا في الوقت نفسه، انتهاكاً لمعاهدة السلام، إلا أن التنسيق الأمني بين البلدين قلل من المخاطر.
وفي أعقاب الضربة الإسرائيلية في قطر في أيلول 2025، اعتبر تهديد “إسرائيل” باستهداف قادة حماس “أينما كانوا”، تحذيراً مباشراً لمصر، ما ألحق مزيداً من التوتر في العلاقة.
خطاب تركيا يعكس ازدواجية المواقف
الموقف التركي عبّرت عنه خطابات أردوغان النارية ضد “إسرائيل”، إلا أنها كانت بمنزلة أداة لتحويل انتباه الرأي العام وتعزيز شعبيته بين الناخبين الإسلاميين والقوميين في الداخل التركي، وامتصاص الأزمة المالية الحادة التي تتسم بارتفاع التضخم وانخفاض العملة.
أدى خطاب أردوغان المعادي لـ”إسرائيل” إلى انزعاج كل من الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي، ما أدى فعلياً إلى إبعاد تركيا كوسيط من المفاوضات الرئيسة المتعلقة بغزة.
وكان أردوغان قد تعرّض للضغط السياسي إبان الانتخابات المحلية في آذار 2024، ولانتقادات داخلية بسبب استمرار حكومته في التجارة مع “إسرائيل”، على الرغم من وجود “إبادة جماعية”، ما دفعه إلى الإعلان عن قيود تجارية في أيار 2024. وعلى الرغم من الإعلان عن وقف التجارة الكامل في أيار 2024 وتكراره في آب 2025، تشير التقارير إلى استمرار التجارة غير المباشرة عبر دول ثالثة مثل أذربيجان وبلغاريا، ويشير إلى وجود مصلحة اقتصادية عملية في الحفاظ على العلاقات التجارية مع تلبية المطالب المحلية باتخاذ موقف قوي ضد “إسرائيل”.
أولوية الاقتصاد على السياسة
حدّت الأزمة الاقتصادية من قدرة أنقرة على العمل السياسي، ما جعلها أكثر اعتماداً على علاقاتها مع الدول الغربية. إن القطع للعلاقات الاقتصادية مع الغرب سيكون مدمراً للاقتصاد التركي. وتعاني تركيا على وجه الخصوص، عدم الاستقرار الاقتصادي المحلي الذي يجعل الصراع الواسع النطاق في المنطقة كارثياً بالنسبة لها وتمثل مشاريع الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، مثل خطوط الأنابيب لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا، مجالاً محتملاً للتعاون الاقتصادي في المستقبل.
على الرغم من الخطاب القوي والانقسامات الدبلوماسية، أظهرت تركيا و”إسرائيل” قدرة على التعاون العملي في الكواليس، منذ الاشتباكات في سوريا في نيسان 2025، أنشأت “إسرائيل” وتركيا، خطاً عسكرياً ساخناً لتجنب المزيد من الحوادث، رغم محاولات “إسرائيل” تخطيها عندما تشعر أن تركيا نكست بها.
لدى الطرفين تأريخ في استعادة العلاقات الدبلوماسية بعد فترات من التوتر الشديد، كما فعلا في عام 2022 وبعد حوادث سابقة، ومع القصف الذي تعرضت له قطر، حذرت تركيا “إسرائيل” من استهداف أعضاء حماس على الأراضي التركية، ما يدل على شكل من أشكال الاتصال، لتجنب التصعيد الذي يتجاوز الإدانات العلنية.
تدرك تركيا أن اللوبي اليهودي القوي في الولايات المتحدة، له تأثير كبير على القرارات في واشنطن. لذلك، سعت أنقرة تأريخياً إلى الحصول على دعم اللوبي لأهداف استراتيجية محددة، مثل تأمين طائرات F-16.
من غير المرجح إلى حد كبير اندلاع حرب مباشرة بين تركيا و”إسرائيل” بسبب العديد من القيود السياسية والاقتصادية والجغرافية والعسكرية الكبرى، إذ تتميز العلاقة طويلة الأمد بينهما بفترات من التعاون والتوتر على حد سواء، لكنها لم تتصاعد أبداً إلى صراع عسكري مباشر.



