اخر الأخباراوراق المراقب

العصيان والسقوط في حضيض الجهالة

مرتضى معاش..

أهم مظاهر الجهالة هو التبعية الحضارية، بحيث يكون الإنسان تابعا في كل شيء لتلك الأمم الأخرى، وهذه التبعية الحضارية تأتي من خلال الانبهار بمظاهر الغير، وأشكاله الصاخبة، وبإغواء الشيطان الذي يغريهم بالمناظر الخلابة والأشكال الجميلة، حتى يسهل لهم الدخول في المعصية.

وعندما يسقط الإنسان في مستنقع المعاصي، فإن هذه المعاصي تكبر وتتضخم حتى تستحكم عليه، وإذا استحكمت فيه وقسا قلبه يصبح فاقدا لمعنى المعرفة، ومستغرقا في الجهالة.

وفي زيارة الأربعين:

(فَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَهِ، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى وَشَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الاَوْكَسِ وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَحَمَلَةَ الاَوْزارِ المُسْتَوْجِبِينَ النَّار).

 تعبير عن تلك السببية بين المعاصي والجهالة، حيث يصل العاصون الى حضيض الجهالة بسبب انغماسهم في المعاصي، وانحرافهم عن منهج أهل البيت (عليهم السلام)، لذلك طريق النجاة ووسيلة الاستنقاذ في طاعتهم (عليهم السلام)، فإطاعة غيرهم هي التبعية التي تسقطهم في وحل التخلف والانهزام العقائدي والثقافي، وباستيراد عقائد الآخرين تسقط الأمة بالصراعات والانشقاقات، وهيمنة سلوك النفاق، والخيانة وتحل عليها الذلة والانكسار والجفاف الحضاري والتصحر الثقافي.

ما معنى المعاصي؟

العصيان: خلاف الطاعة، عصى العبد ربّه: إذا خالف أمره، وعصى فلان أميره يعصيه عصيانا، ومعصية: إذا لم يطعه، فهو عاص، والجمع معاصي، والفعل عصى يعصي فهو عاص، وعصى أمره إذا خالفه، والمعصية إصلاحا هي مخالفة أمر الله تعالى فهي فعل الحرام أو ترك الواجب.

والمعصية عكس الطاعة، أو بمعنى: الذنب والمخالفة. ومعصية الإنسان لربه بمعنى: مخالفة أمر الله تعالى، وارتكاب الذنوب، والمنهيات. والمعاصي بمعنى: الذنوب.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):

(إن الجاهل من عصى الله وإنْ كان جميل المنظر عظيم الخطر).

فمن يعصي الله فهو جاهل، لأنه بالإضافة الى مخالفته الأوامر التشريعية يخرق القوانين التكوينية ويتمرد عليها، والتمرد عليها يؤدي الى ضرر العاصي بل الى هلاكه في أوقات كثيرة:

فمن يخرق قانون الجاذبية ينتهي بموته، وهذه قاعدة سارية في كل قوانين الله تعالى حيث إن عدم إطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله وأنبيائه والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) يؤدي الى هلاك البشر والأمم، لذلك فإن العصيان الذي ينبهر به الإنسان ويغريه يقوده إلى الجهالة المستمرة بالقوانين الإلهية ومن ثم التمرد عليها.

فالعبادة لله سبحانه وتعالى، وتلك العبادة لله تعني الالتزام بالأوامر والنواهي وعدم ارتكاب المعاصي وأداء بالواجبات والتكاليف الشرعية، وإلّا فإن المعصية تعني التعبد للشيطان وطاعته:

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ).

التوازن في صميم طاعة الله تعالى

وعندما يطيع الظالم فإنه (أسخطك وأسخط نبيك) لأنه لا يعمل في طريق الله سبحانه وتعالى ويصبح من أهل الشقاق والنفاق الذين يختلقون الأزمات والمشكلات، وهؤلاء يكونون من أهل الشقاق والنفاق لأنهم يخرقون القانون الإلهي وينشرون الفوضى التي تؤدي الى اختلال التوازن، فتندلع الصراعات والحروب والثورات، التوازن هو في صميم طاعة الله تعالى والالتزام بقانونه، فكل انشقاق يؤدي الى اصطناع الخلافات والأزمات في الأمة، هو تعبير عن خرق التوازن ومعصية الله سبحانه.

(وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

إن نقيض التوازن هي الفوضى، الفوضى تولّد الأزمات والمشكلات، أما التوازن فهو يؤدي إلى النظام، والشقاق يؤدي إلى الفُرْقة، وإلى الاختلافات وإحداث الفوضى وإنتاج النفاق، والنفاق يؤدي الى تدمير الثقة الاجتماعية وانحلال المنظومة الاخلاقية، ومن ذلك مايجده كل فرد في الشارع، فإذا التزم الناس بالنظام المروري فإنه تقل الحوادث، لكن حينما لا يلتزم الناس بالقوانين المرورية تحدث الفوضى وتتعاظم الحوادث وتنفلت النزاعات والمشادات.

بعد ذلك فإن وجود أهل النفاق هو نتيجة للشقاق، لأن الإنسان المنشق أو المختلف، أو المتنازع، دائما يكون في حالة نفاق، حتى يغطي على المشكلات التي يتسبب بها، فيكون ذا شخصية ازدواجية، حيث يغطي على الآثار التي ترتبت على سلوكه الانشقاقي ومعاصيه التي ارتكبها، ومع تراكم المعاصي ينمو جبل النفاق ويتضخم الفساد وتتصلب أسس الجهالة في البنيان الاجتماعي، فالمعصية تؤدي الى الجهالة، والجهالة تؤدي الى ارتكاب المزيد من المعاصي.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام):

 (حديث في حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضة).

فمن يستمع ويقرأ حديثا واحدا في الحلال والحرام ويعمل به، فإنه يسير في طريق الخير والصدق والصلاح والفلاح. فماذا يفيد الإنسان إذا كان يمتلك الذهب والفضة والأموال والكنوز اللامتناهية وهو يعيش في الحرام، فالحرام معصية تقوده إلى البؤس وإلى الشقاء والتعاسة:

 (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).

فالاستمرار في أكل الحرام يؤدي إلى الخروج من حالة التوازن والنظام، والعيش من الفوضى والخوف والقلق، يفتقد للأمان والامن والاستقرار والطمأنينة، فلا يهنأ ولا يستلذ بالحياة، ويصبح من الأحياء الموتى كما وصفهم الإمام علي (عليه السلام)، لذا فإن التفقّه في الحلال والحرام هو عملية أساسية لرفع الجهالة عن الأمة، وهذه حقيقة تكون بارزة أمام الاعين الباصرة، وعدم التفقّه يعني الوقوع في المحرمات والابتعاد عن الحلال، مما يؤدي الى استحكام الجهالة في المجتمع، واندلاع المشكلات والأزمات بارتفاع وتيرة الشقاق والنفاق، وانخفاض قيمة الإنسان إلى الحيوانية، حيث يبيع الإنسان نفسه بلا مقابل (وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى)، بل وانقياده إلى الظلمات والعدم (وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ)، حيث يسقط المنافق هذا السقوط المريع والنهاية السوداء.

ومثال على الذين يشربون الخمر فإنهم يصلون إلى مرحلة من الانهيار التام حيث التدمير الجسدي والتحطم النفسي والتبلد الفكري، وكذلك الأمر في أهل القمار واللصوص والمرتشين والزناة، فالذي يدخل في سلسلة الحرام يصبح خائر الارادة عبدا لإدمانه مستسلما لقدره العدمي.

التقوى في مواجهة جهالة التبعية

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) -لما قيل له: أحب أن أكون أعلم الناس-: (اتق الله تكن أعلم الناس). أي أن تقوى الله عزوجل والورع عن محارم الله واتقاء معصيته، هو الطريق للعلم وتبديد الجهالة، لأنه بالتقوى ستنمو الحالة العقلائية الإنسانية، وتضمحل الحالة الحيوانية التجهيلية، فيكون أقرب للواقع وإدراكه، فيكون أعلم الناس.

فالغريزة تمثل الجانب الحيواني في الإنسان يحجبه عن العلم والمعرفة إن تمكنت منه وتحكمت به، بل يقوده الى الجهل المتوالي حتى الوصول الى الجهالة، فإن الذين يغرقون في شهواتهم ويصبحون أتباعا لأهوائهم، تكون نتيجتهم من التافهين، والتفاهة هي أحد مصاديق الجهالة.

 فالتقوى تنتقل بالانسان إلى عالم العز والغنى والعظمة، أما الذين يفترضون أن نهمهم للأموال وتكالبهم على السلطة سيصنع لهم عزةً وقوة وسطوة، فإنها أوهام تقوده الى الذل والاهانة والفشل. لأنه لن يحصل على الاحترام الحقيقي، فالاحترام يحصل من خلال بناء اعتبار لنفسه بنفسه، دون أن يكون انتهازيا أو وسائليا، ينتهز الفرص في ارتكاب الحرام بطموحات وأهداف شيطانية، ويكون ذلك مغلفا بالغرور والطغيان الذي يذهب به نحو السقوط والامتهان.

وعن الإمام علي (عليه السلام):

 (من أراد الغنى بلا مال، والعز بلا عشيرة، والطاعة بلا سلطان، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته، فإنه واجد ذلك كله).

 وهذه هي المعادلة الحقيقية بين العز والذل، فبالذل لله سبحانه وتعالى يصبح عزيزا، وبمعصيته يصبح ذليلا في الدنيا والآخرة، وهذه هي القاعدة الأساسية في معنى العز والذل، فطاعة الله تعالى مفتاح للوصول الى الانتصار والتقدم، ومن يريد الارتقاء وفتح خزائن البركات عليه بطاعة الله تعالى وعدم معصيته، ومن أهمها الاغتناء بالعلم والعقل والحكمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى