الإمام علي الرضا “ع” ومشروع قيادة الأُمة الإسلامية

الشيخ الحسين أحمد كريمو..
أصبحت القيادة حيث العلماء والفضلاء في هذا العصر، وذلك لما لها من وقع في النفوس وتأثير في الواقع الذي نعيش فيه، ولذا قالوا فيها: “هي مهارة التأثير في الناس للعمل بحماس، لتحقيق أهداف محددة تصبُّ في المصلحة العامة المشتركة، من خلال شخصية أخلاقية قويمة جديرة بالثقة”، تكون هي القدوة لهم في حياتهم ومسيرتهم، فالقائد -باختصار- هو القدوة والأسوة في معترك الحياة الاجتماعية، ولذا قال ربنا سبحانه وتعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
ومن دقيق ما طرحته الآيات الكريمة من مفاهيم راح يكتشفها العلماء بعد كل هذه القرون الطويلة من الزمن هي مفهوم (الإمامة) و(الإمام)، وهي تعني قطعاً ويقيناً القيادة والقائد، فمَنْ هو الإمام القائد، وما هي الإمامة والقيادة في مفهوم القرآن الحكيم وأحاديث أئمة المسلمين؟.
هذا سؤال عريض ناله الكثير من التغيير والتبديل واللعب على ألفاظه ومعانيه من أجل أن يضيِّعوا على الناس المعنى الصحيح والحقيقي والواقعي الذي أراده الله منه وله، وذلك لأنه يرتبط بمسألة الحكم والسلطة وهذه هي أم المسائل الشائكة، والمشاكل الحالكة في كل زمان ومكان، ولذا قال عنها العلامة الشهرستاني: “ما سلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كل زمان”.
ليس بسبب غموضها حاشا وكلا بل بسبب حب الناس لها، وخوفهم منها، وطلبهم إياها بخوض اللجج وسفك المهج، حتى قال قائلهم -هارون الرشيد- لولده المأمون: “يا بني الملك عقيم ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك”، أي لقطع رأسه وهكذا فعل الولد عندما نازعه على الملك أخاه الأمين فحاربه حتى قطع رأسه وأتي به إليه، فالمسألة ليست في المفهوم بل في تطبيقه على الواقع الخارجي.
القيادة في الإسلام
لكل مبدأ ودين مفاهيمه الخاصة التي يستعملها في أدبياته وهي ما تميِّزه عن غيره في ثقافته فيما بعد، والقيادة وهي رأس الهرم السياسي في الدولة الإسلامية -الدينية- فما هو المفهوم الذي استخدمه الإسلام ورسوله الكريم في أدبياته عن مسألة القيادة؟.
والعجيب أنها لم ترد في القرآن الحكيم كل من القيادة والإمامة باللفظ، بل وردت بألفاظ مختلفة أهمها الملك -ما في قصة طالوت-، والولاية -كما في الكثير من الموارد القرآنية، ولذا نجد أن البحوث كانت تدور حول الولاية عندما يكون الحديث والبحث عن القيادة العليا أو الإمامة العامة للأمة، والإمام علي بن موسى الرِّضا (ع) هو الذي بيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الحق في هذه المسألة التي طالما حار فيها أتباع الحكام والسلاطين حتى تراهم يدورون في حلقة مفرغة لا يهتدون إلى الحق سبيلاً، وذلك لأنهم تركوا التشريع الرَّباني واتَّبعوا التشريع السلطاني فضلوا وأضلوا من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
علماً أن المسلمين الأوائل لم يتكلموا عن الإمامة هرباً من الإمام علي (ع)، بل تحدَّثوا عن الخلافة، والسلطة، وانجرَّ الكلام من الإمامة على الأمة إلى الخلافة الإنسانية على الأرض، وإلى الخلافة عن رسول الله (ص) وهم يعلمون أنهم ليسوا بذلك المكان حتى قال أولهم مقولته الشهيرة: (أَقِيلُونِي.. فَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ وَعَلِيٌّ فِيكُمْ)، لأنه يعلم علم اليقين بأن الخيرية والعلم والفضل والتقى هي عند الإمام علي بن أبي طالب (ع) دون غيره من الصحابة، ولكن حليت القيادة، والخلافة، والسلطة، والحكم في أعينهم لما فيها من جاه ومكانة وأموال وغيرها ولذا أماعوا مفهومها في التأريخ الإسلامي، وجعلوا الإمامة تساوي الخلافة، والسلطة والحكم، ونقلوها من موطنها الرَّباني وموضعها الرَّحماني إلى أوساطهم البشرية الدنيوية، فقالوا: إن أمرها يحسم بالشورى فيما بينهم.
وهذا ما جعل الإمام الرِّضا (ع) يشرحها ويبيِّنها ويستدل على كل فكرة بآية من كتاب الله ثم يخلص إلى المعنى المراد من مفهوم الإمامة في الدِّين وشريعة سيد المرسلين، وذلك في رواية جليلة وجميلة يرويها عبد العزيز بن مسلم، حيث جمعته الظروف مع العلماء في يوم الجمعة، وتذاكروا أمر الإمامة واختلاف الناس فيها، فدخل على الإمام الرضا (ع) وقصَّ له ذلك، فقال: (يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ جَهِلَ الْقَوْمُ وَخُدِعُوا عَنْ آرَائِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّهُ (ص) حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ بَيَّنَ فِيهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَالْحُدُودَ وَالْأَحْكَامَ وَجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ كَمَلًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)، وَأَنْزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ آخِرُ عُمُرِهِ (ص): (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)، وَأَمْرُ الْإِمَامَةِ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ وَلَمْ يَمْضِ (ص) حَتَّى بَيَّنَ لِأُمَّتِهِ مَعَالِمَ دِينِهِمْ وَأَوْضَحَ لَهُمْ سَبِيلَهُمْ وَتَرَكَهُمْ عَلَى قَصْدِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَأَقَامَ لَهُمْ عَلِيّاً (ع) عَلَماً وَإِمَاماً وَمَا تَرَكَ لَهُمْ شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بَيَّنَهُ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُكْمِلْ دِينَهُ فَقَدْ رَدَّ كِتَابَ اللَّهِ وَمَنْ رَدَّ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ).
الإمامة والقيادة من الله
المسألة الأولى التي يجب أن ننتبه إليها في مسألة الإمامة والقيادة، هي أنها ليست من شؤون البشر قطعاً ويقيناً بل هي من شأن الباري تعالى فهي كالنبوية والرسالة، التي لو اجتمع أهل الأرض -وهم ثمانية مليارات اليوم- لينصِّبوا أو ينتخبوا نبياً أو رسولاً لما استطاعوا لذلك سبيلاً، لأنها من خصائص الله تعالى ولا علم ولا شغل للبشر بها وكذلك الإمامة في الأمة والقيادة في الحياة، فهي أمر رباني يختار لها الأصلح والأعلم والأتقى والأنقى ويجعله للناس إماماً يقتدون به، وقائداً يتَّبعونه في كل شيء ويطيعونه في كل أمر.
ولذا الإمام الرضا (ع) يفصِّل المسألة لعبد العزيز، فيقول: (هَلْ يَعْرِفُونَ قَدْرَ الْإِمَامَةِ؟ وَمَحَلَّهَا مِنَ الْأُمَّةِ، فَيَجُوزَ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ؟ إِنَّ الْإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً، وَأَعْظَمُ شَأْناً، وَأَعْلَى مَكَاناً، وَأَمْنَعُ جَانِباً، وَأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ)، لأن طبيعة البشر ضعفاء ومحدودون في كل شيء في الزمان، والمكان والعقل والقلب والإمكانيات فلا يمكن له أن يسمو ويرتفع أو يتعالى ويرتقي إلى تلك المسائل التي هي من الله تعالى، ولذا عليه أن يعرف محدوديته ويقف عند حدِّه ولا يتعدَّى طوره حتى لا يحل به السخط والغضب الإلهي لأنه يدَّعي ما ليس له أو فيه.
حقيقة ومقام الإمامة
يبدأ الإمام الرِّضا (ع) ببيان حقيقة ومقام الإمامة، فيقول: (إِنَّ الْإِمَامَةَ خَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (ع) بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَالْخُلَّةِ، مَرْتَبَةً ثَالِثَةً، وَفَضِيلَةً شَرَّفَهُ بِهَا وَأَشَادَ بِهَا ذِكْرَهُ، فَقَالَ: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، فَقَالَ الْخَلِيلُ (ع) سُرُوراً بِهَا (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ)، فالإمامة مرتبة عليا بالنسبة للنبوة ويسموها الخلَّة الخاصَّة بأبينا إبراهيم (ع)، فجاءت مرتبة أعلى ومقام أسمى من كل ما حباه الله به، بل هي فضيلة وشرف كبير وهبه الله لخليله، ورفع وأشاد بها ذكره دون سواه من الأنبياء الكرام وذلك لأن من صفاتها:-
أولاً: إنها جعل وتخصيص وشرف وكرامة من الله سبحانه، وليس للبشر فيها أي دخل لأنها فوق مستوى البشر فهي تمثل القيادة العليا، والقدوة المثلى لهم فكيف يكون لهم دخل بها وهي المقياس لهم والميزان لأعمالهم؟.
ثانياً: هي عهد الله في خلقه، وعهد الله لا يناله الظالمون في كل زمان ومكان، ولذا بيَّن ووضح الإمام الرضا (ع) هذه الحقيقة التي حاولت الأمة أن تخفيها، لأنها تسلَّط عليها الظالمون منذ اللحظة الأولى لرحيل الرسول الأكرم (ص) عنهم فاتَّخذوا لأنفسهم حكاماً وسموهم خلفاء وهم من الظالمين لأنفسهم لأنهم قضوا ردحاً من الزمن تجاوز الأربعين سنة يعبدون الأصنام ويسجدون لها ويذبحون ويقرِّبون القرابين لها، و(مَنْ عبد الصَّنم لا يكسر الصَّنم)، لأنه ربَّه ومعبوده الذي عبده سنوات وسجد له عقوداً متطاولة، فكيف يكون هذا خليفة لله ورسوله؟ .
ثالثاً: خاصة بالذُّرية الطاهرة؛ ولذا هي صارت في الصَّفوة الصافية والذُّرية الطاهرة من ذريته وهذا ما بيَّنه باستدلال قرآني رائع جداً حيث يقول الإمام الرِّضا (ع): (ثُمَّ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ أَهْلِ الصَّفْوَةِ وَالطَّهَارَةِ فَقَالَ: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ، وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)، فَلَمْ تَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِ يَرِثُهَا بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى وَرَّثَهَا اللَّهُ تَعَالَى النَّبِيَّ (ص) فَقَالَ جَلَّ وَتَعَالَى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).