اللجوء إلى الله من مكر الشيطان وشروره

أحمد عبد زيد الجبوري..
الحياة مليئة بالاختبارات والتحديات، وهي دار امتحان وابتلاء، والانسان مُعرّض فيها لاختبارات شتى، وأشدها تلك التي تأتي خفية، حيث لا يكون الانسان متأهباً لها، كوساوس الشيطان ومكائده التي تهدف الى حرف الانسان عن طريق الهداية، وايقاعه في مهاوي الضلال والانحراف.
فقد نصت النصوص الدينية على ان الشيطان، منذ خلق نبي الله آدم “عليه السلام”، أعلن عداءه الصريح لبني البشر، وتعهد بان يغويهم بمختلف الطرق، مستخدماً أساليب التزيين والاغراء لصدهم عن طاعة الله عز وجل، فقال في تحدٍ واضح (فبعزتك لأغوينهم أجمعين)، لكن رحمة الله الواسعة لم تترك الانسان دون سبيل للنجاة، فقد جعل لعباده المخلصين، حصانة الهية تحميهم من كيد الشيطان ومكره، كما قال عز وجل (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين).
يسعى الشيطان بمكره وحيله إلى إبعاد الإنسان عن طريق الهداية، مستخدماً شتى الأساليب لإيقاعه في المعاصي والانحرافات، فيزين له الباطل حتى يبدو في صورة الحق، ويوهمه بأنه يسلك طريقاً مستقيماً، بينما هو في الحقيقة منزلق في دروب الضلال والانحراف.
وقد جاءت التحذيرات الإلهية واضحة في القرآن الكريم، حيث قال الله سبحانه وتعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا)، وهذه الآية ليست مجرد إخبار بعداوة الشيطان، بل هي أمر إلهي مباشر باتخاذه عدواً حقيقياً، والاحتراس من مكره.
ان الشيطان يسعى بكل مكره وحيله إلى إضعاف قلب الإنسان، وزرع الشبهات والشكوك في عقيدته، ليتمكن من دفعه تدريجياً نحو الذنوب والمعاصي حتى يبعده عن طريق الهداية، فهو لا يبدأ بإيقاع الإنسان في الكبائر مباشرة، بل يتدرج معه خطوة بعد خطوة، مستغلاً غفلة القلب وضعف اليقين، فيزين له الذنوب ويغلفها بمظاهر جذابة، حتى يعتادها ويستصغرها، ثم يجره إلى ما هو أشد خطراً منها.
المراحل التي يحول بها الشيطان المؤمن إلى ضحية:
زعزعة اليقين
من أخطر أساليب الشيطان في تضليل المؤمن وإبعاده عن الصراط المستقيم، هو زعزعة اليقين وبث الشكوك في قلبه، حتى يصبح عرضة للضياع والانحراف، فالشيطان لا يأتي فجأة بفتنة واضحة، بل يتسلل إلى النفس رويدا رويدا، حتى يضعف الإيمان، فيجعل الانسان يشكك في المبادئ الراسخة والعقائد الصحيحة التي كانت ثابتة في قلبه، فتتحول النفس إلى ميدان صراع بين الإيمان والشك، فيبدأ الإنسان بالتردد فيما كان يعتقده حقا، وتبدأ الظنون الكاذبة بالتسلل إلى قلبه، فتضعف طمأنينته، وتوهن عزيمته، فيصاب بالفتور، ثم ينصرف تدريجياً عن الطاعة، وفي هذه الحالة، يصبح متردداً في أداء الفرائض، مهملاً للواجبات، فتتغلب عليه الغفلة، فيبتعد شيئاً فشيئاً عن طريق الهداية، معرضاً نفسه للضياع والانقطاع عن رحمة الله، وهو ما يسعى إليه الشيطان بلا كلل ولا ملل.
وقد حذرت النصوص الدينية كثيراً من هذه المرحلة الخطيرة، حيث لا يشعر الإنسان أنه انزلق نحو الضياع إلا بعد فوات الأوان، إذ يبدأ الأمر بشك بسيط، يتسع تدريجياً حتى يتحول إلى قناعة باطلة، ثم يكون سبباً في الانحراف التام عن الدين، ولذلك، يجب أن يكون المؤمن في حالة يقظة دائمة، مدركاً أن التشكيك في المسلمات والحقائق الراسخة ليس مجرد فكرة عابرة، بل هو باب واسع يسعى الشيطان لفتحه في قلوب الغافلين، ليجرهم إلى طرق لا رجوع منها إلا بصعوبة بالغة.
الانزلاق نحو الكبائر
إن حياة الإنسان في مسيرته الإيمانية، أشبه بسفينة تبحر وسط بحر متلاطم الأمواج، حيث تتجاذبها رياح الشهوات ومغريات الدنيا، فتظل تترنح بين الاستقامة والانحراف، وقد يجد الإنسان نفسه أحيانا، قريباً من حافة المعصية، متهاوناً في أمرها، حتى يضعف أمام زخارفها، ليجد نفسه، غارقاً في مستنقع الذنوب.
هذا الانحراف لا يحدث فجأة، بل يسير على وفق خطوات خفية، تبدأ بالتهاون في الذنوب الصغيرة، واستصغار المعصية، ثم الاعتياد عليها، حتى يقسو القلب، ويصبح اقتراف الكبائر، أمراً مألوفاً لا يستشعر خطره، وهنا تبدأ مرحلة الخطر الحقيقي، حين يسيطر على الإنسان، نوع من الغفلة الروحية، فيرى ذنوبه مجرد أخطاء عابرة، بينما هي في حقيقتها، طريق موصل إلى البعد عن الله.
فروي عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق “عليه السلام” ان من الكبائر، (القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله)، وهذا تحذير واضح من ان اليأس ليس مجرد حالة نفسية عابرة، بل هو معصية كبرى، لأنه يتضمن اتهاماً لرحمة الله بالعجز، وكأن الانسان يقول: (ذنوبي أكبر من ان يغفرها الله)، وهو قول يتنافى مع صفات الله الرحيم الغفور، الذي يقول في كتابه الكريم: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور).
ما السبيل للخلاص؟
بعد أن تبين لنا خطورة مكر الشيطان ومراحله المتدرجة في الإغواء، بدءاً من التشكيك في العقيدة إلى التزيين التدريجي للمعاصي، حتى الانزلاق نحو الكبائر، يبرز سؤال جوهري: كيف يحصن الإنسان نفسه أمام هذه الفتن العظيمة؟ وما السبيل للخلاص من حبائل عدو أقسم على اضلالنا؟.
الجواب على ذلك، ان القرآن الكريم والسنة النبوية قد وضحا لنا طريق النجاة من مكر الشيطان، وذلك من خلال نصوص دقيقة ومحكمة ترسخ العقيدة في النفوس، وتعمل على تحصين الانسان من الوقوع في براثن الإغواء.
فالمرحلة الأولى تبدأ بتثبيت اليقين في القلب، فهو الأساس الذي يمنح الإنسان الثبات أمام مغريات الدنيا، ويجعله في مأمن من طعنات الشبهات التي يلقيها إبليس في القلوب الضعيفة، ولهذا جاء الخطاب القرآني واضحاً حين قال: (يثبت الله الذين آمنوا).
أما المرحلة الثانية، فهي الطاعات كحاجز يحفظ النفس من الوقوع في حبائل المعاصي، فلا يمكن أن يكون الإنسان ثابتا أمام الإغواء إذا لم يكن مشغولا بذكر الله، عاملا بطاعته، منقطعا عن معصيته.
وأما المرحلة الثالثة والأهم، فهي اللجوء إلى الله، حيث يجدد العبد العهد مع ربه، ويعيد الصفاء إلى قلبه بعد أن تكون المعاصي قد أثرت عليه، فلا ينبغي له أن يعتقد أن الذنب يحجب عنه رحمة الله أو أن بابه مغلق أمام التوبة، فقد ورد عن رسول الله “صلى الله عليه وآله” أنه قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وهو تأكيد على أن العودة الصادقة إلى الله تمحو أثر الذنب، وتفتح أبواب المغفرة لمن سعى إليها بإخلاص.