اخر الأخباراوراق المراقب

التواضع طريق النجاح

جاء في الخبر عن إمامنا الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه، وهو في بيتٍ له جالس على التراب، وعليه خلقان الثياب. قال: فقال جعفر (عليه السلام): فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما بنا، وتغيّر وجوهنا، قال: الحمد للّه الذي نصر محمداً (صلى الله عليه وآله)، وأقرّ عينه، ألّا أُبشركم؟ فقلت: بلى أيها الملك، فقال: إنه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك، فأخبرني أن اللّه عزّ وجلّ قد نصر نبيّه محمداً (صلى الله عليه وآله)، وأهلك عدوّه وأُسر فلانا وفلانا وفلانا، التقوا بوادٍ يقال له بدر، كثير الأراك، لكأني أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك، وهو رجل من بني ضمرة، فقال له جعفر: أيها الملك فما لي أراك جالساً على التراب وعليك هذه الخلقان؟ فقال له: يا جعفر إنا نجد في ما أنزل اللّه على عيسى (عليه السلام) أن من حق اللّه على عباده أن يحدثوا له تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمةٍ، فلما أحدث اللّه عزّ وجلّ لي نعمة بمحمّد (صلى الله عليه وآله) أحدثت للّه هذا التواضع، فلما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) قال لأصحابه: إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدقوا يرحمكم اللّه، وإن التواضع يزيد صاحبه رفعةً، فتواضعوا يرفعكم اللّه، وإن العفو يزيد صاحبه عزّاً، فاعفوا يُعزَّكم اللّه».

ولا ريب في أن التواضع يعكس أثراً بليغاً على الروح، فتشق طريقاً عميقاً من الخير للإنسان، لأن المتواضع هو ذلك الإنسان الذي يسع قلبه الآخرين، ويحتوي المواقف والأشخاص الذين يترفع عنهما الآخرون، فهو يعيش الحرية والاطمئنان والارتياح عندما يجالس الفقراء والضعفاء والمستضعفين، ولعلّه يعيش حالة عدم الارتياح والتوبيخ الروحي عندما يبتعد قليلاً عن تلك الأجواء فالمتواضع يضع ذاتياته جانباً، ويتعامل بروح تسع رغبات الآخرين، إنه يحاول أن يضيّق دائرة (الأنا) والشعور بالذات، لينطلق إلى دوائر ومساحات أوسع، تشمل الآخرين، وكل ما هو بسيط فتراه يختار المواضع الاعتيادية، والملابس المتواضعة، والطعام البسيط، وحتى كلامه ومنطقه تلمس منه روح التواضع، مع قدرته على اختيار الأحسن والأجود والأجمل والأطيب، إلّا أنه يرى الكمال الإنساني في التواضع والعيش البسيط، والقناعة بالقليل، لكي يبقى قلبه كبيراً، يحتضن الناس، وطاهراً يقطر قدسيّة ونقاءً، وتبقى نفسه شريفة وعزيزة، مترفعة عن مادّيات الدنيا وزخارفها الفانية، فيعيش بنفسه الكمال واللذّة الروحية والعقلية، مفضلاً الأخيرة على اللذة المادية وبذلك يزداد رفعة في الدنيا قبل الآخرة، ويَكْبر مقامه في قلوب الناس الذين احتواهم بفؤاده، بل شمل أعداءه.

توهم باطل

عندما نتأمّل في أسباب التكبّر والكِبَر، نلاحظ أنّ أهمها توهّم الكمال، فالمتكبر يتوهم لنفسه كمالاً من الكمالات، ويتصور أنه متحلٍّ بهذه الصفة، وأن الآخرين أدنى منه وأقلّ، فيترفّع عليهم ويتعاظم وينظر إليهم بعين التحقير والازدراء، فيبدأ ينظر إلى المؤمنين على أنّ إيمانهم سطحي قشري، وهو صاحب الإيمان الحق، وهكذا ينظر إلى كل الشرائح الاجتماعية، لا سيما البسطاء منهم، بل إنه يحتقر إنسانيتهم، ويتحسس من وجودهم، ويحاول إلغاء حركتهم ووجودهم، والشطب عليهم في الحياة. وكل ذلك إنما جاء بسبب توهّم الكمالات وتخيّل الفضل على الآخرين. ولذلك فلا غرابة في أن يتكبّر الإنسان على اللّه والرسل والدين، بعد أن كان التكبر نفسه حاجباً غليظاً، يحجب الروح عن الاتصال بربّها ويكون حجر عثرةٍ في طريق الإيمان، وحجاباً من الظلمة يغلّف الإنسان، فيجعله مظلماً لا إشراق فيه، فيسلب التكبر التوفيق من صاحبه، قال تعالى: (سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ} وقال سبحانه: (فَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٞ وَهُم مُّسۡتَكۡبِرُونَ) فيكون التكبر الذي تولّد من طريق وهميّ سبباً لمنع الإنسان من الوصول إلى الإيمان.

كما أن من أسباب التكبر قلّة العقل وضيق الأفق الفكري، فالشخص المتصف بذلك ما إن يجد في نفسه خصلةً مميزةً حتى يتصور لها مقاماً، ومركزاً خاصاً، فيتكبّر على الآخرين بهذا الإحساس الوهمي، والضحالة الروحية. ولا يخفى ما لذلك من أضرار اجتماعية وخيمة، من قبيل اضطراب العلاقات بين الأفراد والجماعات، وما يخلّفه ذلك من عواقب ونتائج لا تنسجم مع الطبيعة الاجتماعية.

ومن هنا تظهر بجلاء فائدة وقيمة التواضع الذي أكّد عليه العقل والدين، باعتباره القاعدة الخصبة التي يجتمع الأفراد عليها، فإنّا لا نجد أحداً يكره المتواضع بسبب تواضعه، وذلك لأن التواضع صفة إنسانية يحبها ويحترمها كل إنسان، مضافاً إلى أن المتواضع إنما يتنازل بتواضعه عن بعض حقوقه، ويرفع كَلَّه وثقله عن كاهل الآخرين، وذلك ما يرغب فيه الناس. وهو بعد هذا وذاك: الدواء الشافي لمرض الكبر، والعلاج الناجح لقلع الجذور والانحرافات الفاسدة التي تولدت من مرض التكبر؛ «ضادوا الكبر بالتواضع»، لأن الإنسان المتواضع لديه روحية وقلب كبيران يحوي بهما الناس، وبقية الصفات التي تصدر من بعضهم. وبذلك يكون قريباً من اللّه ومن الناس، لأنه يتواضع لكل شيء، ولا يتنفَّر من أخيه الإنسان أبداً، ولا شك أنّ هذا الأمر يقرّب المتواضع من اللّه، لأن اللّه يُحبّ هذه الصفات الحسنة. ولذا فقد نسبت بعض الأحاديث التواضع إلى العلم والتكبر إلى الجهل: «التواضع رأس العقل والتكبر رأس الجهل».

وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «في ما أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود (عليه السلام): يا داود كما ان أقرب الناس من اللّه المتواضعون، كذلك أبعد الناس من اللّه المتكبرون».

أعلى الدرجات

لا يخفى أن التواضع درجات، وليس على وتيرة واحدة، لأنه صفة كمال، والكمال ذو مراتب، فهناك من يتواضع في الملبس أو المأكل أو في المجلس… ولكن جوهر التواضع وأعلى مراتبه هو أن يذلّ الإنسان نفسه وكيانه أمام اللّه، فيشعر بذلّ الروح، وفقر الحال، ونقص مرتبة الوجود، فيتذلَّل قلباً للّه عزّ وجلّ. ومعنى ذلك أن تعترف الروح بأنها في أشدّ الحاجة لكسب الكمال من اللّه، وأنها في أشدّ الذل والفقر، وبذلك تنهل من فيض اللّه عزّ وجلّ، فتتصف بالطهارة والخير، فتشرق بذلك ويشع منها كل خير وحبّ للناس. ولذلك جاء في ما: «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى (عليه السلام): أن يا موسى أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: يا رب ولم ذاك؟ قال: فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه: أن يا موسى، إني قلّبت عبادي ظهراً لبطن، فلم أجد فيهم أحداً أذلّ لي نفساً منك، يا موسى إنك إذا صليت وضعت خدَّك على التراب».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى