إيمان الحُب يُطهِّر الأرضَ من الكراهية
أ. د. عبد الجبار الرفاعي..
بإيمان الحُبّ والرحمة والجمال يسترد الدين شيئًا من الضوء الذي أطفأه التشدّد والتطرّف والعنف، وينقذ الإيمانُ الإنسان من القبح الذي يتفشى في تديّن متوحش يثير الاكتئاب في الحياة.
الحُبُّ بوصلةُ القلوب المتلهفة للارتواء من كلِّ معنى جميل في الوجود، الحُبُّ أعذب لغة يتحدثها الإنسانُ مع الله، وأجمل معنى لتكريس علاقات ثمينة داخل العائلة والجماعة والمجتمع، لكنَّ الحُبَّ عصيّ على أكثر الناس، ومتعذّر على بعضهم الآخر. عندما يتحدثُ الإنسان بحُبّ، ويقرأ بحُبّ، ويكتبُ بحُبّ، ويبني صلاتِه بكلّ شيء حوله بحُبّ؛ تشرقُ أنوارُ الأبد على قلبه. لا يضيء القلبَ إلا إيمانُ الحُبّ، إيمان الحُبّ يبعث سكينة الروح وطمأنينة القلب، ويُطهِّر الأرض من الكراهية والعنف. لا ينتج الإيمانُ السكينةَ مالم يكن تجربةً وجودية يضيئها الحُبّ الإلهي. الحُبّ الإلهي مقامٌ لا يتكاملُ فيه الإنسانُ إلا بارتياضٍ روحي وتسامٍ أخلاقي لا يطيقه إلا الأفذاذ.
مَن يريد أن يعيش في أفق المعنى، ويحقّق لقلبه الطمأنينةَ ولروحه السكينة، عليه أن يبدأ باكتشاف ذاته، يبدأ بهذا الاكتشاف أولًا ويواصل رحلة اكتشافه بلا نهاية، ويتعرّف بمختبر الذات إلى نفسه. من خلال التعرّف على ذاته يعمل على اكتشاف الكينونة الوجوديّة للإنسان بما هو إنسان، ويتعرّف أكثر إلى الطبيعة الإنسانية المشتركة، ويروّض نفسَه على احترام معتقدات الإنسان المختلِف وتكريمه، وذلك يتطلب كدحًا شاقًا، وممارساتٍ تربويّة روحيّة وأخلاقيّة متواصلة.
ويعمل باستمرار على تدريب نفسه على التراحم والشفقة على الخلق، ويسعى لمحبّتهم إن أمكنه ذلك، بغضّ النظر عن أديانهم أو معتقداتهم ومذاهبهم وأعراقهم وثقافاتهم، وتلك بدايةٌ ثانية ليس لها نهايةٌ أيضًا. هذا هو الطريقُ الذي يبدأ فيه الإنسانُ أسفاره إلى الله، وهو طريق تتواصل فيه الرحلةُ الأبديّة. كلّما واصل الإنسانُ هذه الأسفارَ تكرّست صلتُه بالله وتكامل وجودُه، إذ ينتقل من طورٍ وجودي أدنى إلى طورٍ وجودي أسمى، في رحلةِ تكاملٍ وجودي لا تنتهي ولا تقف عند حدّ. هذا هو الطريق، طريق أسفار الإنسان إلى الله عبر اكتشافِ الذات، واكتشافِ الإنسان المختلِف واحترامِه وتكريمِه ومحبّته. هكذا تبدأ وتتواصل أسفار الذات في رحلة إيمان المحبّة والتراحم.
يبدأ كلُّ ما هو جميل في هذا العالم بالإنسان، يبدأ حُبّ الله بحُبّ الإنسان، ويبدأ حُبّ الإنسان بحُبّ الذات. الإنسان هو جسر العبور إلى الله، مَن لا يحُبّ الإنسان لا يحُبّ الله. إذ لا حُبّ لله يتحقّق خارجَ حُبّ الإنسان. نمط الحضور الحقيقي للإنسان في الوجود يتحقّق بنمط صِلاته بالآخر، ويستمدّ قوة حضوره أو هشاشتها تبعًا لكيفية صِلاته الأخلاقية بالآخر.
محبّة الإنسان الجدير بالمحبة هي الطريق إلى حُبّ الله، وحُبّ الله هو النور الذي لا ينطفئ أبدًا. مَن يدعو إلى حُبّ الله من دون حُبّ الإنسان، أو قبل حُبّ الإنسان، لا يدلنا على الطريق إلى الله. حُبّ الله طريقه الوحيد هو حُبّ الإنسان الجدير بالمحبّة والإكرام. فضاء إيمان الحُبّ ضيق في التديّن الكلامي والسياسي، وأوضح وأوسع حضورًا في التديّن الشعبي تديّن الأمهات والآباء. القلب مرآة الأنوار الإلهيَّة، إن كان صاحُبّ القلب تسعده سعادة الآخرين، ويروّض ذاتَه على رحمة الخلق ومحبّتهم. النداء الإلهي يصغي إليه كلّ قلب يسكنه الحُبّ والرحمة والشفقة في الأرض. عندما يتوطن حُبّ الله قلبَ إنسانٍ يجعله مرآةً تعكس الأنوارَ الإلهيَّة البهيجة.
لا تنبض الحياة بالإيمان إلا أن يكون صلةً متدفقة تغذّيها محبّة الله. الإيمان والحُبّ كلاهما يتكلمان لغة واحدة. الحُبّ بلا إيمان فقير، الإيمان بلا حُبّ عنيف. وحده الإيمان يثري وجودنا ويكرّسه، إن كان الإيمان يتكلم لغة المحبّة والرحمة والسلام. المعنى الكامن في الحُبّ لا يوازيه إلا المعنى الكامن في الإيمان العميق بالله. حُبُّ الله والإيمانُ كلاهما تجليان لحقيقةٍ واحدة.
أجمل ما تتجلى فيه روحُ الإنسان أن يكون إيمانها بالله حُبًّا، وحُبّها لله إيمانًا. الإيمان والحُبّ كلاهما يتكلمان لغة واحدة. الإيمان حالة وجودية تُلهمنا سكينةَ الروح، الحُبّ طاقة تُلهمنا تذوقَ أجمل ما في الحياة وتحسّس جماليات الوجود. وحده الإيمان يثري وجود الإنسان ويكرّسه، إن كان الإيمان يتكلم لغة المحبّة والرحمة والسلام. حُبّ الإنسان الجدير بالمحبّة هو الطريق إلى حُبّ الله والإيمانُ به. حُبّ الله والإيمانُ به نورٌ لا ينطفئ، يطهِّر القلبَ من الأغلال والإحَن، ويجعل حياةَ الإنسان الشخصية مشبّعة بالسكينة والسلام. مَن يدعو إلى حُبّ الله من دون حُبّ الإنسان، أو قبل حُبّ الإنسان، لا يدلنا على الطريق إلى الله. قلب الإنسان الذي يفيض الحُبّ على غيره أجمل مرآة تتجلى فيها صورةُ الله في الأرض. الحُبّ ضرب من انكشاف الوجود، وتجلي النور الإلهي في الإنسان.
تذوق المحبّة الأصيلة يوقظه الإيمان، ويثريه شهود الأنوار الإلهيّة. أسمى حُبّ أن يرى الإنسان مَن يُحبّه بوصفه مظهرًا يتجلى فيه جمال الله في الوجود.
لا يتجلى الله في قلب إنسان كما يتجلى في حالة الفزع، في هذه الحالة وأمثالها تُسعِف المحبّة والإيمان والرحمة النفوسَ الفزعة وتسهم بتضميد جراحها. يتجلّى اللهُ كأجملِ ما يتجلّى في الإنسانِ الذي ينبضُ قلبُه بالمحبةِ والرحمةِ، ويتمسّك بالحقِّ والعدلِ، ويهتمُّ بإكرامِ الإنسانِ واحترامِه، بغضِّ النّظرِ عن دِينِه ومعتقدِه. المحبة بلا شروطٍ ولا حدودٍ نعمةٌ إلهيّةٌ، لا يظفرُ بها إلا الأخلاقيون النبلاءُ.
حُبّ الله لا ينتهي ولا يقف عند حد، لا ينطفئ، لا يموت، ولفرط عذوبته يجد مَن يتذوقه والحاجةَ إليه لا تُشبَع ولا تنتهي. أفق التكامل في الحُبّ الإلهي مفتوح، إذ يتسامى هذا الحُبّ ويصفو ويشتدّ إشراقُه إن كرّس الإنسانُ حياتَه لمن يحتاج إسعافًا ورعاية وعطفًا من خلق الله، الحُبّ الإلهي هو الغاية النبيلة لكل حُبّ أصيل. حُبّ الإنسان ما لم تكن ضمانتُه حُبَّ الله لا يحمي الإنسانَ في مراحل حياته المختلفة من القلق الوجودي، وأحيانًا تكون مآلاتُ هذا الحُبّ جرحًا نازفًا أو رمادًا تذروه الرياح.
لا حقوقَ لله بلا حقوق للإنسان، لا تتحقّقُ الأولى إلا أن تتحقّقَ الثانية، مَن لا يكترث بحقوق الإنسان لا يكترث بحقوقِ الله. علمُ الكلام التقليدي ينطلق من رؤية تتقدم فيها حقوقُ الله على حقوقِ الإنسان، خلافًا لعلم الكلام الجديد الذي يرى حقوق الإنسان هي الطريق لأداء حقوق الله. الدينُ في ضوء التعريف الذي وضعته له ينشد إيقاظ القيم الروحيّة والأخلاقيّة والجماليّة وتكريسها، وينطلقُ من رؤية تكون فيها حقوقُ الإنسان سُلّمًا يرتقى فيه الإنسان لحقوق الله. الكرامةُ والمساواةُ والحرية والعدالة وغيرها من حقوق الإنسان، هي ما يُعبَد بها الله، وهي ما ينشدُ دينُه في ضوء هذا الفهم للدين حمايتَها. كلُّ إنسانٍ يريدُ أن يصلَ إلى الله ويؤدِّي حقوقَه عليه أن يبدأ بتأدية حقوق الإنسان أولًا. لأن حقوق الإنسان هي حقوقُ اللهِ في الأرض، مَنْ لا يكترثُ بحقِّ الإنسان ولا يهتم به يفشل في الوفاء بحقِّ الله. يتنازل الله عن حقوقه بالتوبة والمغفرة والعفو، لكن سلب حقّ الغير يتطلب تنازل الإنسان المُستلَب حقه عنه.