مشاهد من غزة

حسن القطراوي / فلسطين..
لا أعرف أين دفنوا
تحمِل ابنها الذي ينزف من رأسه، وتحاول إسعاف أخيها المُلقى على الأرض، في المقابل تجلس سيدة بجانب زوجها المغطى بالدم،
لعلها لحظة حُب أخيرة،
ربّما،
عجوزٌ أخرى تغرق بالدم،
تُشير للفتاة عن مكان الأطفال، نجاة الأطفال بعثٌ جديد، العجوز لا مشكلة بينها وبين الموت، العلاقة جيدة منذ سنوات، هو سيأتي حتما وهي راضية، الموت بهذه الطريقة،
أمرٌ جيّد.
في الوسط طفلة تودّع قدمها المبتورة،
لا تبكي، فالبكاء خُرافة قديمة، قبل يوم قالت والدتها إن البكاء بين الأصنام هُراء، صدّقت الطفلة فلماذا تبكي؟
لا فائدة من البكاء!
هرع الأب لباب المدرسة ورجع،
هرع مرّة أخرى ورجع، كرر ذلك مئة مرة، الجميع يموت أمامه، فكرة البقاء وحيدا بالنسبة له مُرعبة، كان قلبه يتمزق، الرجال هكذا يقتلهم الضعف أكثر من القوة.
لا أعرف، أظنه مات!
قبل أيام رأيت رجلاً يتحدث بصوتٍ مسموع،
سألته إن كان يبحث عن شيء، قال أبحث عن أبنائي الموتى، ظننته يهذي، قال حقا أبحث عن أبنائي الموتى!
لا أعرف أين دفنوا!
متى سيعب القاتل؟
أجري مع كل أب يحمل أطفاله ويفر هاربا من الرصاص، ألهث مع كل سيدة تجري وتلهث خوفا من القذائِف، أمشي ببطء مع سيدة عجوز تلاحقها الطائرة، أشدُ الشيخ كي يسرع أكثر، أحمل طفلة يقتلها الخوف، أعيدُ طفلاً تاه في الزّحام، أصرخ في شاب تأخر.
تعبنا، فمتى سيتعب القاتل؟
واقع يحتاج البكاء فقط
في الحرب عليك أن تتنازل عن بعض طقوسك القديمة، فمثلاً بالكاد تستطيع مطالعة الكتب التي تحبها، نكذب على أنفسنا بقراءة سريعة لتزييف الحقيقة على ضمائرنا لتكون نصف راضية. الاستماع للموسيقى رفاهية كبيرة، فصوت الحرب يخلق منك إنسانا مشوّها من الداخل، الموت الكثيف أمامك يجعلك في حيرة من أمرك بين متطلبات القلب والروح، شيء ما ينتزعك منك. الساعة التي أفرغتها للرياضة ما زالت فارغة، لكن شيئا ما جعلها كأي ساعة أخرى، مليئة بأشياء ثقيلة، لكنك لا تعرف حقيقتها، أنت مُرهق لأسباب تجهلها، أنت تعبان من مجرّد شرح تعبك.
الحُزن اليومي جعل من الضحك عادة قديمة، تعجز أحيانا عن فتح شفتيك لإظهار ابتسامة حقيقية، الابتسامة التي تظهر على شفتيك ليست سوى صورة تمثيلية في واقع يحتاج البكاء.
البُكاء فقط.



