القيادة الكاريزمية.. كيف تحول السيد نصر الله إلى رمز أبدي للقضية الفلسطينية؟

محمد الأيوبي.
في عالمٍ يتقاطع فيه الوعي السياسي مع الإعلام الموجّه، وتُعاد فيه صياغة التأريخ من منظور المنتصر، يبرز اسم سيد شهداء الأمة حسن نصر الله بوصفه استثناءً يرفض الزوال من الذاكرة العربية والإسلامية. لم يكن السيد نصر الله قائدًا محليًا محصورًا في حدود الجغرافيا اللبنانية، بل تحوّل إلى رمزٍ أمميٍّ للقضية الفلسطينية، تجسّدَ فيه المزيج النادر بين الكاريزما الفردية والرؤية الاستراتيجية والقدرة على إعادة تعريف مفهوم المقاومة في القرن الحادي والعشرين.
إن ما جعل السيد نصر الله أكثر من مجرد قائد سياسي هو أنه لم يسعَ إلى السلطة بمعناها التقليدي، بل إلى تأسيس وعيٍ جماهيري يتحدى منظومة السيطرة الصهيونية الغربية على الوجدان العربي والعالمي. في زمنٍ تحوّلت فيه القضايا الكبرى إلى شعارات مستهلكة، أعاد نصر الله للقضية الفلسطينية معناها الأخلاقي والوجودي، وربطها بمسألة الكرامة الإنسانية في مواجهة الظلم والهيمنة.
لم يقدّم السيد نصر الله الأيديولوجيا كعقيدة مغلقة، بل كمنظومة فكرية مفتوحة تربط بين المحلي والإقليمي والعالمي. كان يدرك أن الصراع مع “إسرائيل” ليس مجرد نزاع حدودي، بل معركة ضدّ نموذجٍ من الاستعمار المتجدد المدعوم من الإمبراطورية الأميركية، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية والعسكرية مع السيطرة الثقافية والإعلامية.
في هذا السياق، تجاوز السيد نصر الله الخطاب الطائفي الضيق ليقدّم نموذجًا أمميًا للمقاومة. لقد خاطب الفلسطيني قبل اللبناني، والمظلوم قبل المؤمن، والإنسان قبل الأتباع. بهذا المعنى، كانت كاريزمية السيد نصر الله نتاجًا لوعيٍ جمعي أكثر منها سحرًا فرديًا؛ إذ أعاد تعريف القيادة بوصفها عقدًا اجتماعيًا جديدًا بين الفكرة والمجتمع، بين المعنى والفعل.
كان خطابه يشبه القادة الثوريين الحقيقيين، “لغة الوعي الأخلاقي في زمن الفساد السياسي”. لقد كان السيد نصر الله يربط بين التحرير والمقاومة من جهة، وبين العدالة الاجتماعية والسيادة من جهة أخرى، ما جعله صوتًا نادرًا في زمن التواطؤ الإقليمي. في كلّ خطابٍ له، كانت فلسطين حاضرة لا كرمزٍ تقليدي، بل كاختبارٍ للإنسانية، وكمرآة لقياس مدى انتماء الأمة إلى قيمها الأصلية.
حين قال السيد نصر الله عبارته الشهيرة: “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”، لم يكن يطلق شعارًا دعائيًا، بل يزرع قنبلة معرفية في بنية الوعي “الإسرائيلي” والعالمي. في نظرنا، السيطرة تبدأ من اللغة، ومن احتكار تعريف الذات والآخر. والسيد نصر الله فهم ذلك بعمق استثنائي؛ إذ أدرك أن تحطيم صورة “الجيش الذي لا يُقهر” هو شرطٌ ضروري لتحرير العقل العربي من عقدة الهزيمة، ولزعزعة الأسطورة الصهيونية داخل المجتمع “الإسرائيلي” نفسه.
هذا التفكيك المنهجي لصورة العدوّ هو ما جعل المقاومة اللبنانية، ثمّ الفلسطينية لاحقًا، قادرة على الانتقال من موقع الدفاع إلى الهجوم. لم تعد “إسرائيل” قادرة على الاحتفاظ بهيبتها الردعية، ولا على فرض روايتها للعالم. لقد نجح السيد نصر الله في تحويل “الخوف” من سلاحٍ بيد “إسرائيل” إلى سلاحٍ ضدّها.
لم يكن السيد نصر الله مجرّد قائد عسكري أو زعيم ميداني، بل مهندسًا لاستراتيجية مقاومة متكاملة تربط بين العمل العسكري والسياسي والإعلامي. فمنذ التسعينيات، أدرك أن أي مواجهة ناجحة مع “إسرائيل” تحتاج إلى تكامل بين الأيديولوجيا والواقعية، بين الصلابة المبدئية والمرونة التكتيكية.
لهذا، نسج شبكة معقّدة من التحالفات الإقليمية التي جمعت إيران وسورية واليمن والعراق والفصائل الفلسطينية. غير أن فرادته كانت في حفاظه على استقلالية القرار المقاوم ضمن هذا المحور، بحيث بقي صوت فلسطين حاضرًا في كلّ مفصل من قراراته وخطاباته.
إن دعمه للمقاومة الفلسطينية لم يكن عملًا عاطفيًا أو شعارًا تضامنيًا، بل جزءًا من رؤية أوسع لبناء “جبهة موحدة” قادرة على كسر احتكار “إسرائيل” للمبادرة. فبعد “اتفاق أوسلو”، حين تراجعت بعض الفصائل نحو التسويات السياسية، ملأ السيد نصر الله الفراغ الأيديولوجي بتأكيده أن المقاومة ليست خيارًا سياسيًا بل قدرًا تأريخيًا للشعوب المقهورة.
لقد نقل خبراته الميدانية من الجنوب اللبناني إلى غزّة، وأسّس لما يمكن تسميته “مدرسة المقاومة الذكية”، مقاومة تعتمد على المرونة، والمفاجأة، والقدرة على تحويل نقاط الضعف إلى عناصر قوة. ولعلّ عملية طوفان الأقصى عام 2023 كانت التطبيق الأقصى لهذه المدرسة، إذ جسدت فكرة الحرب المتعددة الجبهات التي طالما دعا إليها السيد نصر الله كشرطٍ لإرباك المنظومة “الإسرائيلية“.
الكاريزما لدى السيد نصر الله لم تكن نتاج صناعة إعلامية، بل نتيجة تطابقٍ بين القول والفعل، بين ما يَعِد به وما يُنجزه. لقد اكتسب ثقة جماهيرية غير مسبوقة لأنه خاطب الناس بلغة الصدق والمكاشفة، لا بلغة التهويل والتضليل.
في أوج حرب تموز 2006، حين كانت الضاحية الجنوبية تحت القصف، خرج السيد نصر الله ليعترف بخسارة بعض المواقع، مؤكّدًا أن “الدمار ليس هزيمة، بل هو ثمن للكرامة”. هذه الصراحة عزّزت صورته كقائد حقيقي لا يخشى مواجهة الحقيقة، في وقت كانت فيه الأنظمة العربية تُدار عبر الأكاذيب.
أما على المستوى النفسي، فقد أدرك أن “الهزيمة تبدأ في الوعي”، لذلك جعل من الخطاب أداة لتحرير هذا الوعي من الخوف. لقد جعل جمهوره يعيش إحساس القوّة لا كترفٍ معنوي، بل كإيمانٍ واقعي بقدرة المقاومة على الانتصار. وهنا تتقاطع تجربته مع تحليل تشومسكي عن “صناعة الوعي”، لكن في الاتّجاه المعاكس: إذ حوّل السيد نصر الله الإعلام من أداة للهيمنة إلى أداة للتحرر.
من الناحية الجيوسياسية، كان السيد نصر الله أحد القلائل الذين فهموا أن معركة فلسطين لا يمكن أن تُخاض داخل حدودها فقط. بل بتحالفات إقليمية متشابكة.
كان يؤمن بما يمكن وصفه بـ”الاستقلال ضمن التحالف”، أي أن تتكامل القوى في مواجهة العدوّ المشترك، من دون أن تُلغى خصوصياتها السياسية أو الثقافية. هذه المقاربة جعلت من محور المقاومة منظومة متعددة المستويات، تمتلك خطابًا سياسيًا موحدًا لكن بآليات عمل محلية مستقلة.
وقد كانت علاقته بحماس مثالًا على ذلك: دعمها حين كانت محاصَرة، وانتقدها حين انجرفت نحو مشاريع التسوية، لكنّه لم يتخلَّ عنها يومًا، لأنه كان يرى في وحدة المقاومة شرطًا استراتيجيًا لا يُمسّ.
في عالمٍ يسيطر عليه الإعلام الغربي الموجّه، كان السيد نصر الله يدرك أن السيطرة على الرواية توازي السيطرة على الأرض. لذلك أسّس لمنظومة إعلامية مضادة -من قناة المنار إلى الخطاب الشعبي- هدفها ليس فقط مواجهة الأكاذيب، بل إعادة تعريف الحقيقة من منظور المقهورين.
لقد نجح في تحويل القضية الفلسطينية من ملف سياسي جامد إلى حكاية إنسانية متحركة؛ من مأساة تُروى إلى وعدٍ بالتحرر. أعاد توزيع الأدوار في السردية: لم تعد “إسرائيل” هي الضحية بل الجلاد، ولم يعد الفلسطيني رمزًا للهزيمة بل عنوانًا للكرامة.
بهذا الفعل، أعاد صياغة الذاكرة الجماعية العربية، وأدخل فلسطين إلى قلب الوجدان اليومي. صار اسم السيد نصر الله مرادفًا لفلسطين، تمامًا كما كان اسم غيفارا مرادفًا للحرية. وبهذا، تجاوز البُعد المحلي إلى الرمزية العالمية.
بعد استشهاد السيد حسن نصر الله، لم تمت الفكرة. بل إن رمزيته أخذت بعدًا أكثر عمقًا، كما يحدث مع القادة الذين يتحولون من شخصيات سياسية إلى رموزٍ تأريخية. فالقائد الحقيقي هو من يترك بعد رحيله شبكة من الوعي قادرة على العمل من دونه.
لقد بنى السيد نصر الله مؤسسات مقاومة، لا تعتمد على كاريزمية الفرد وحدها، بل على منظومة فكرية وتنظيمية تستمر حتّى بعد غيابه. هذا الإدراك بأن “الفكرة أهم من القائد” هو ما جعله مختلفًا عن كثير من الزعماء العرب الذين انهارت مشاريعهم بموتهم.



